اعلم أنّ القوم لا يفهمون مخاطبة الخلق لهم إلاّ عن الله, وذلك يقتضيه مقامهم لا يستعملونه في أنفسهم, فلا تستغرب يا أخي من فهمهم الكلمة الواحدة الموضوعة على معنى مخصوص آخر, فإنّ ذلك عندهم من أشرف المقامات, وأعظم الدرجات, لكونهم يفهمون الأمور عن الله, وقد أجمع أهل الله على أنّ الفهم عن الله على قدر مقام العبد عند الله, ولم يختلفوا في أنّ الكلمة الواحدة الدالّة على معنى مخصوص قد يفهم منها العبد معاني كثيرة لا تحصى,وغرائب لا تستقصى .وكلهم قائلون إن مريد الطائفة لا ينبغي له أن يسمع إلا في الله وفي رسول الله .أو فيما يقربه لله ورسوله.
وربّما الكلمة تكون ظاهرها قبيحاً, ويستفيد منها العارف أمرا مليحا, أمّا على وجه التصريح وأمّا على وجه التلويح, فإنّ القوم وإن اشتركوا مع غيرهم في ظاهر اللفظ, فإنّهم مختلفون في القصد, كما أنّهم اشتركوا في المشهود واختلفوا في الشهود, فكذلك اشتركوا في المسموع, واختلفوا في الأسماع, قال تعالى: ( يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ)( الرعد آية / 4) فقد يسمع الصوفي ما لا يسمع الغير,ولا يأخد من القول إلا أحسنه,فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم :( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقُولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهَُ وَأُوْلَـئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الاَْلْبَـبِ) (الزمر : 18 ).فسبحان من هداهم وقربهم إليه, واجتباهم حتى صاروا يأخذون أحكامهم وأفعالهم من مولاهم فسمعوا ما لم يسمعه الخلق, وأبصروا ما لم يبصره الخلق, فأجسامهم عندنا وأرواحهم عند الملك الحقّ, وكما قال بعضهم:
فؤادي عند محبوبي مقيم
يناجيه وعندكم لساني
ولهذا صاروا يسمعون غير الشيء المسموع,حتى صار أحدهم يأخد علمه من أصغر الأشياء في عيون الناس.ولا حقارة عند هؤلاء الناس,بل عندهم كل ما في الوجود يشير لوحدانية المعبود.ويصير اللفظ القبيح في أسماعهم محموداً.
وقد سمعنا من أهل الطريقة أن ثلاثة سمعوا مناديا يقول :"يا ستر بري" ففهم كل واحد منهم مخاطبة عن الله,وكانوا كلهم في طريق القوم,فسمع أحدهم :"اسع تررى بري" وسمع الآخر:"الساعة ترى بري" وسمع الآخر:"ما أوسع بري". فالمسموع واحد واختلفت الأسماع.قال تعالى :(قد عَلِمَ كلُّ أُناس مَشْرَبَهُمْ) (البقرة60) وفي هذا المعنى قال الإمام (الجيلي) في (عينيته) المشهورة:
إذا زمزمت ورقاء على غصن بانة
وجاوبها قمريّ على الأيك ساجع
فأذني لم تسمع سوى نغمة الهوى
ومنكم فإنّي لا من الطير سامع
وقد كنت يوما مع شيحنا وأستاذنا اسيدي محمد البوزيدي رضي الله عنه في وليمة,وكان المنشدخارج المحل الذي نحن فيه,وهو يقول والشيخ مطرق الرأس جامع الحواس,إلى أن قال :أتكسر الكأس والدفق والخمر. وإذا بالشيخ صاح وقال بأعلى صوته "الله" ثم التفت وقال لي : قم نذهب لئلا يقع منا ما يقع.فخرجنا من حيننا وهو يكرر في ذلك الشطر إن افترقنا . فإذا كان هؤلاء القوم يستخرجون الجدّ من الهزل, فكيف لا يستخرجون الجدّ, من الجدّ, بل لهم ذلك لكونهم لا يقفون عند ظاهر الألفاظ, وإنّما ينظرون إلى المعاني الدالّة على المراد, ولا يلتفتون للحن ولا للإعراب, بل يأخذون المعاني من حيث وجدوها, فهم ناظرون لإشارة الأرواح, غافلون عما يتلفظ به اللسان, تراهم مع الله في كلّ حال وشأن, مع انّه كلّ يوم هو في شأن.فبذلك الفوز غابوا عن التزويق,حيث خاضوا بحار التحقيق,وحيث كان اشتغالهم بالقلب الذي هو محل الرب,صلحت قلوبهم لمشاهدة ربهم,فتولاهم الله وطهرهم وذلك أولى من تطهيرهم لأنفسهم : (إنَّ الملوكَ إذاَ دَخَلوا قريَةً أَفْسَدوهاَ وجَعَلوا أَعِزَّةَ أَهلِهاَ أذِلّةً)(النمل34) ,ما اتخذ الله وليّا جاهلا إلاّ علّمه, وابتداء التعليم به ثمّ بأحكامه, وأمّا بقيّة العلوم فليست شرطا في صحّة الولاية وإنّما هي شرط كمال وذلك كالنحو والصرف, والمعاني والبيان, وعلم اللغة,وما أشبه ذلك من العلوم التي أكثر الصوفية لا خبرة لهم بها لعلو همتهم وشرف رتبتهم عن الله وغناهم بمعرفته التي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم :" من لم تغنه معرفة الله, فذلك هو الشقي".وليس ذلك هو نقص في حقهم حيث غفلوا عن العلوم الكفائية,عدا أحكام العبادة وإنما ذلك كمال لكن دون كمال .قال سيدي أحمد بن عجيبة رضي الله عنه: (إصلاح اللسان دون إصلاح القلب فسق وضلال, وإصلاح القلب دون إصلاح اللسان كمال دون كمال, وإصلاح القلب واللسان كمال الكمال).قلت : وأي فائدة في إصلاح اللسان دون إصلاح القلب .وهل رأيت من يستكفي بالكلام دون المقام وبالأقوال دون الأفعال ؟ وهل يغني اللسان عن الإيمان ؟ أو يغني الخبر عن العيان ؟. قال الفقيه ميمون رحمة الله عليه: (أقبح كلّ قبيح أن يتعلّم الإنسان نحو اللسان ويعلّمه, ولا يتعلّم نحو القلب ويعلّمه, مع أنّه محلّ نظر الربّ, فإذا كان نحو اللسان مع نحو الجنان كان صاحبهما في أمان, ولا يخشى عليه الخسارة والخذلان, يوم وقوفه بين يدي الرحمن, لأنّ الله تبارك وتعالى لا يثيب العباد على إعرابهم, وإنّما يثيبهم على قلوبهم).كما ورد في الحديث:" إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم" وأما إذا اشتغل الإنسان بلسانه وتغفل عما سيقف بين يديه فقد خسر وخدل .ولو كان التفاوت يقع عند الله بإصلاح اللسان ما ترك الصوفية من لغة العرب شيئاً,وصاروا كلهم مذاهب فيها كما أنهم الآن مذاهب في تصفية الباطن وتصحيح الأحوال,لكونهم آخدين بالعزائم,وما سواهم آخدون بالرخص .والخلائق مخاطبون بظاهر الشرع ما عدا الصوفيّة, فإنّهم مخاطبون بظاهر الشرع وباطنه,ويكفيك فيهم ما يسمعونه من كلام الخلق المتعاطى بينهم فيحملونه على غير ما وضع له,ويكون عندهم كالمقياس في الطريق يقيسون عليه ويتخاطبون فيه.فلهذا لا يشتغلون بما سوى الواجب من العلوم الأجنبية,وإن سمعوا منها شيئا يحملونه على معنى أشرف مما وضع له. وقد سئل سيدي أحمد بن موسى دفين كرصاص بالصحراء رضي الله عنه :" هل قرأت من علم النحو شيئا ؟ فقال : نعم ، قرأت بيتين من الألفية وهي قوله : فما لنا إلا اتباع أحمداً ، وقوله : فما أبيح افعل ودع ما لا يباح".فصاحب النظم جعله مثالا في الإعراب والسيد المذكور وجدهما عين الصواب .قال شيخ شيوخنا مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه: (ما عرفنا من النحو إلاّ إعراب قوله تعالى:( إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ )(النور آية / 32), إنّ حرف شرط, ويغنهم جواب الشرط, والمقصود بالغنى الغنى الأكبر فيكون خطابه للمتوجهين على طريق أهل الإشارة.وحاصل الأمر أن الكلام يطول ذكره,وفي هذا القدر كفاية لمن اعتبره,وبعين الانصاف تدبره.ويكفينا في القوم إضافتهم لله حيث لقبوا بأهل الله.,فإنهم منسوبون إليه ولا يرون معه في الكون سواه.وكل ما برز من ألسنتهم أو رسموه في كتبهم فهو مأخود من الفيض الإلهي,لا من قرائتهم ولا من تدبرهم،إذ وقفوا متوجهين لمولاهم خاضعين لسطوته في حسهم ومعناهم,يأخدون الحكمة حيث وجدوها,لا يتكبرون عن خلق من المخلوقات,ولا يركنون لما سوى الله من سائر الموجودات.اللهم اجعلنا منهم ولو من المتطفلين على أبوابهم,ولا تقطع إضافتنا إليهم يا أرحم الراجمين.
لي سادة من عِزهِم
أقدامُهم فوق الجباهْ
إن لم أكنْ منهم فلي
في حُبّهِم عِزٌّ و جاهْ
وعن بعضهم أنّه رأى النبيّ عليه الصلاة والسلام في منامه فقال له: (يا رسول الله إنّي متطفل في هذا العلم, فقال: اقرأ كلام القوم, فإنّ المتطفل على هذا العلم هو الوليّ, وأمّا العامل به فهو النجم الذي لا يدرك), فمن أجل علوّ مقامهم, وإشراف رتبهم وفهمهم الأمور التي لا يدركها أحد إلاّ بمجالستهم والتذلّل على أعتابهم, أردت أن أبين بعض ما يأخذونه من الفقه وغيره بالإشارة التي تناسبهم مع أخذهم لظاهره والعمل به, والتديّن بأحكامه, ولا تَفهمْ من أخذهم باطن الألفاظ أن يتركوا ما يقتضيه الظاهر حاشاهم من ذلك, بل يأخذون ما لا يقدر أن يأخذ به غيرهم من العزائم وسيرتهم في ذلك مشهورة, ولا يخفى ما لهم من التورع ووظائف الأعمال والتضرع, حتى صار الكل مقتدياً بهم في سيرتهم.ولا يناقض هذا أقوال بعض أهل الجذب الغالب عليهم الحال, لكونهم ناقصين عن درجات الكمال. وأمّا الكمّل فأقوالهم مشهورة في عدم انفكاك الحقيقة عن الشريعة, أو العكس منها قولهم: (الحقيقة عين, والشريعة أمرها), ومنها قولهم: (من تحقّق ولم يتشرّع فقد تزندق, ومن تشرع ولم يتحقق فقد تفسق, ومن جمع بينهما فقد تحقق), ومنها قولهم: (الحقيقة باطنة في الشريعة كبطون الزبد في اللبن فبخض اللبن يظهر الزبد), وقال شيخنا سيدي محمد البوزيدي رضي الله عنه :(الحقيقة جسد والشريعة أعضائها ولا يمكن أن يكون الجسد بغير أعضاء).ويقال: (إنّ الحقيقة شجرة والشريعة أغصانها), ويكفي في هذا ما قاله عليه الصلاة والسلام: (الشريعة مقالي, والطريقة أفعالي, والحقيقة حالي), وإذا كان هذا وصفه عليه الصلاة والسلام فكيف يتأخر عن هذا المقام ؟ مثل هؤلاء القوم, قد زيّنوا ظاهرهم بالشرع وجمّلوا باطنهم بالجمع, وأخذوا من الشرع ما لا يقتضيه الطبع, ولا يسبق إليه السمع, فمن أجل ذلك صار جميع ما يفهمونه عن الله في سائر أحوالهم مأخوذا من الكتاب والسنّة,وقلّما تجد قولا من أقوالهم في الشريعة إلاّ ولهم فيه جميع مراتب الشريعة كالإسلام والإيمان والإحسان, وإن شئت قلت الشريعة والطريقة والحقيقة, بخلاف ما عداهم فإنّهم لا يأخذون من القول سوى الظاهر من غير التفات لما له في الباطن من الأسرار القدسيّة والمعاني الغيبيّة, ولهذا احتجب عنهم ما كان عليه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نظرهم لباطن الأشياء لما وقف الناس مع ظاهرها, وقد مدحهم عليه الصلاة والسلام بقوله: ( سيروا فقد سبق المفردون, قالوا: ما المفردون يا رسول الله؟ قال: هم الذين نظروا لباطن الدنيا حيث نظر الناس لظاهرها) فتحصل من هذا أن العلماء بالله لا يحتجبون بظاهر الأشياء عن باطنها,ولا بباطنها عن ظاهرها,ولا باللفظ عن المعنى ولا بالمعنى عن اللفظ ,راسخي القدمين في كلا الحضرتين.