آخر الأخبار

جاري التحميل ...

المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة -1

ومع هذا فالعالم بأسره ما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا بقبضته.نحمده على ما أولانا من معارفه الغيبيّة, ونشكره جلّ مولانا على ما منحنا من لطائفه القلبيّة,وحبانا بمزيد التفضّل والامتنان بمرتبة التربية, ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادة عبد مخلص أرشده مولاه لطريق الكمال, فأقرّ له بالربوبيّة,وأسقط النظر معه في جميع الأحوال, واعترف له بالوحدانيّة المطلقة في الذات والصفات والأفعال, ونزهّه عن الأنداد والأشباه والنُظُر والأمثال . ونشهد أنّ سيدنا ونبيّنا ومولانا محمداً روح العالم ومظهر الذات, ونقطة الوجود وسرّ الكائنات, صلّى الله عليه وسلّم وأله وأصحابه الأعيان الهداة صلاة وسلاما يكونان لنا حصنا حصينا وحرزا منيعا من البلايا والآفات, يتعاقبان ويتجدّدان بتجدّد الأيام والأوقات. 
وبعد ,فيقول العبد الفاني الموله أحمد بن مصطفى بن عليوة، إنّه لمّا منّ الله عليّ بورود منهله المعين, أرشدني إلى طريق مرشده المعين,وأنقدني من ربقة طريده المريد اللعين ووفقني لفتح مغلفات هذا النظم العجيب, المحتوي ظاهرا أركان الدين وباطنا على مسلك من مسالك الإشارة غريب,فوجدته قد أقبل على ظاهره جم غفير من أهل الظاهر وتوقف في التفحص عن باطنه أهل الباطن غيرة منهم على إفشاء السرائر، فبقيت نفوس بعض من ينتمي لهذا المشرب طامحة للبحث عن إشارته, متشوّقة لما يلوح من معاني ألفاظ عباراته, فحملتني الغبطة في هذا الفن,وكثرة الاشتياق,على الإقدام من غير سلاح وارتكاب المشاق,وتطفلت فيه حيث للتطفل وجها مباحاً وتشبهت بالكرام حيث وجدت للتطفل وجهاً مباحاً وتشبهت بالكرام حيث ألفيت التشبه بهم فلاحا,وما زلت حتى قادني الشوق نحوه يسايرني في كل ركب له ذكر على أنّني لست من أهل هذا الميدان, ولا من فرسان هذا الشأن, ولكنّي اعتمدت في الدخول لهذا المدخل البعيد قول الناظم للمتن طيب الله ثراه "أبياته للأميّ تفيد",وحينما يستفيد الإنسان فيجب عليه أن يفيد إذ لا يحلّ لنا أن نكتم ما أنزل من الهدى على العبيد,وإن كان هذا العلم دقيق,والخوض فيه لا أظن أحدا يطيق,فما لا يدرك كله لا يترك كله عند أهل التحقيق وقد قدمت على المقصود بالذات مقدمتين جليلتين مفيدتين:الأولى في شرف علم القوم على غيره من العلوم المتعارفة . الثانية في فهم القوم في اللفظ الواحد معان مختلفة .ملتمسا للقبول ممن يقف على ذلك طالبا من الله تيسير ما صعب على غيرنا في مهامه تلك المسالك .فإن ظهر لكم يا معشر الإخوان قصر باعي في التعبير,وبلوغ نهايتي في التقصير,فذاك هو المناسب لي لأن المقام خطير والتعبير في هذا الموطن بقدر التنوير .وبعد ما أخرجته من مبيضته ورتبته على هيئته,ظهر لي أن أسميه (بالمنح القدوسية: في شرح المرشد المعين بطريق الصوفية)وأسأل الله الكريم أن يلهمنا لمنهجه القويم وطريقه المستقيم,وأن يقيل عثراتنا في مظان الزلات ويشغلنا بعيوبنا في سائر الأوقات.إنه المتفضل بجميع الخيرات.

{المقدمة الأولى في شرف علم القوم على غيره من العلوم المتعارفة} 

اعلم أنّ هذا العلم هو أفضل العلوم, وأزكى الفهوم, لا ينكره إلاّ من كان من بركته محروم, لكنّ العلوم من حيث هي قد يقع الاستغناء عنها في وقت ما بخلاف هذا العلم فإنّه لا يستغنى عنه في سائر الأوقات حتما, ولا يقول بالاستغناء عنه إلاّ جهول حرم لذّة الوصول, ومن جهل شيئا عاداه, ولله درّ عز الدين الأربلي حيث قال رحمه الله :
كمل حقيقتك التي لم تكمل والجسم دعه في الحضيض الاسفل
أتكمل الفاني وتترك باقيا هملا وأنت بأمره لم تحفل 
الجسم للنفس النفيسة آلة ما لم تحصلها به لم يحصل 
يفنى وتبقى دائما في غبطةٍ محمودة أو شقوةٍ لا تنجلي 
أعطيت جسمك خادماً فحدمته ونسيت عهدك في الزمان الأول 
ملكت رقك مع كمالك ناقصا أتملك المفضول رق الأفضل 
وكثيرا ما كان يلهج الغزالي ببيتي أبي الفتح البستي رحمهما الله, وهما: 
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته وتطلب الربح ممّا فيه خسران 
عليك بالنفس فاستكمل سعادتها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان 
قال ابن بنت الملق رحمه الله : 
من ذاق طعم شراب القوم يدريه ومن دراه غذا بالروح يشربه
فلاح لنا من هذا المرقوم ,أنّ هذا العلم أشرف العلوم, وشرفه بشرف المعلوم, وقدره بقدر متعلّقة, وهو متعلّق بذات القيوم.تالله لقد حاز الشرف الذي ليس فوقه مزيد وباقي العلوم بالنسبة إليه كلها مماليك له وعبيد كما قيل :
أيها المغتدى لتطلب علماً كل علم عبد لعلم الكلام
تطلب الفقه كي تصحح حكماً ثم أغفلت منزل الأحكام
مع أن الممدوح في هذين البيتين يصح أن يكون عبداً لعلم القوم الذي هو موضوع هذا الكتاب ولكون علم القوم مأخودا عن العيان,وعند غيرهم مأخود من دليل وبرهان,فما بعد البيان بيان.وليس الخبر كالعيان.
قال حكيم الصوفيّة: (شتان بين من يستدل به, وبين من يستدل عليه, وكلّ علم يقع الجدال والمنازعة بين أهله, والمخالفة والتباين بين أربابه, إلاّ هذا العلم الشريف فإنّه منزّه عن المشاققة والتحريف), قال سيدي عمر بن الفارض: 
وكم بين حذّاق الجدال تنازع وما بين عشّاق الحبيب تنازع
قلت : وسبب ذلك عدم الاجتهاد في علوم القوم بخلاف علم الفروع , فأنه يؤخد عن دليل وبرهان ومنه ما يؤخد من نقل .وأما علم القوم فإنه مأخود من كشف وعيان لا غير,فلهذا لم يقع فيه تباين ولا تخالف.وهو باطن القرآن,وظاهر القرآن منزه عن التغيير فأحرى بباطنه قال تعالى :(إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون)(الحجر:9) فوكل عز وجل بظاهره أرباب الظواهر,ووكل بباطنه أرباب البصائر,فصار أهل البصائر يتفكهون في ظاهر القرآن وباطنه كتفكّه أحدنا في بستانه,قال عليه الصلاة والسلام: (القرآن بستان العارفين), وقال ابن العربي الحاتمي قدّس الله سرّه: (أعطيت مفاتيح القرآن العظيم), وليس هو أول من أعطي مفاتيحه, ولا هو أخرهم, وإنّما كلّ من كان له نصيب من فهم القرآن العظيم, ومن لم يكن له نصيب من هذا العلم فلا نصيب له من باطن القرآن, وإنّما حظّه بظاهر اللفظ.

ذكر عن الإمام عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه ما معناه: (لو شئت لوقرت أربعين وقراً من تفسير الفاتحة), وكلّ ذلك ممّا أعطي من تلويح الإشارة, ودقائق العبارة في علم الباطن, وله أن يستخرج أكثر من ذلك لأن لفظ الأقل محتوِ على معنى الكل لما في الخبر أن "كل ما في الصحف في الكتب الأربعة وكل ما في الكتب الأربعة في القرآن العظيم,وكل ما في القرآن العظيم في فاتحة الكتاب,وكل ما في الفاتحة في البسملة وكل ما في البسملة في بائها,وكل ما في الباء في نقطتها" فتحصل من هذا أن الكتب المنزلة على الأنبياء من أبينا آدم إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مع ألفاظها ومعانيها وأحكامها مجتمعة في نقطة الباء مع صغر جرمها,فمن ذا الذي يطيق ان يستخرج هذه المعاني العظيمة والدلائل الفخيمة من نقطة الباء إن لم يستخرجها العارفون بالله أرباب البصائر,وهؤلاء هم الذين عرفوا معنى الحديث وصدقوا قائله من طريق الشهود والعيان لا من طريق الإيمان. 
وإذا استقر في ذهنك أيّها القارىء اللبيب أن نقطة الباء جامعة لسائر الأحكام والرسوم والمعارف والفهوم, فمن باب أولى وأحرى الكلمة, فسلّم لأهل هذا العلم ولا تستغرب إن رأيتهم استخرجوا من المعنى الواحد معاني شتى, ومن الكلمة الواحدة كلمات جمّة, فلهم أن يستخرجوا ما شاءوا من أي شيء شاءوا, تالله لو أراد أحدهم أن يستخرج العسل من الخل لفعل: (يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ)(الروم آية / 19) وكلّ ذلك دليل على ما منحهم الله من الأسرار والمعارف والأنوار, فلا تغتر يا أخي بأقوال المغرورين الذين ينقصون أولياء الله, ويخوضون في أعراضهم, ويزعمون أنّ لهم يدا عليهم, وما هم إلاّ بمنزلة الصبيان معهم, لكونهم لا يدرون من أي بحر غرفوا, ولا لأي جهة من الجهات توجّهوا, كما قال الشيخ محي الدين بن العربي رضي الله تعالى عنه: 
تركنا البحار الزاخرات وراءنا فمن أين يدري الناس أين توجهنا

بذلك صاروا أشرف الأمم على الإطلاق,وعلمهم أشرف العلوم بالاتفاق.فجد يا أخي في طلبه,وصدق بأهله,فإنك تغنم,وإلا فسلم.
نقل الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين عن بعض العارفين ما نصه: (من لم يكن له نصيب من هذا العلم أي علم الباطن, أخاف عليه سوء الخاتمة, وأدنى نصيب منه التصديق به والتسليم لأهله). 
قال أبو الحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنه: (من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصرّا على الكبائر وهو لا يشعر). 
ومن الكبائر عند القوم شهود الغير, ولا يسلم من هذه البليّة إلاّ من كان متذلّلا واقفا على أبوابهم, ولو كان من العلماء المتقين والزهّاد العابدين, فتذلل يا أخي لهم لعلّك تحظى بودادهم وإلاّ صدّق بعلمهم. قال الجنيد رضي الله تعالى عنه: (التصديق بعلمنا هذا ولاية, وإذا فاتتك المنّة في نفسك, فلا يفوتك أن تصدّق بها غيرك).قال الشيخ أبو يزيد البسطامي رضي الله تعالى عنه: (إذا رأيت من يؤمن بالطريق فقل له يدعو لك الله فإنّه مجاب الدعوة).قال الصقلي في كتابه (نور القلوب في العلم الموهوب): (كلّ من صدّق بهذا العلم فهو من الخاصّة, وكلّ من فهمه فهو من خاصّة الخاصّة, وكلّ من عبّر عنه وتكلّم فيه فهو النجم الذي لا يدرك, والبحر الذي لا يترك). 
كان (الطبيب صاحب حاشية الكشاف) يقول: (لا ينبغي للعالم ولو تبحّر في العلوم حتى صار واحد أهل زمانه أن يقنع بما علمه, وإنّما الواجب عليه الاجتماع بأهل الطريق, ليدلّوه على الصراط المستقيم حتى يكون ممن يحدثهم الله في سرائرهم من شدّة صفاء بواطنهم, إلى أن قال: حتى يصير يقتبس من أنوار النبوّة). 
قلت :وكيف يستغني العالم بعلمه مع أنه مقصر في فهمه؟ وقد بلغنا عن الإمام الغزالي رضي الله عنه لما اشتغل بتصفية باطنه على مصطلح أهل الله أنه قال :"ضيعنا عمرنا كله في البطالة فيا خيبة مسعاي في تلك الأيام.فقيل له : ألست قد صرتَ بذلك حجة للإسلام ؟ قال : دعوني من هذه الترهات,أما بلغكم قوله صلى الله عليه وسلم:إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" فانظر يا أخي تواضع هذا العالم الشهير,وإقراره بما كان عليه من البطالة قبل اجتماعه بالقوم,ولا تحسبنه قال ذلك تهاوناً منه بعلم الشرع,وحاشاه من ذلك,وإنما قاله تعظيماً له حيث عرفه وكان قبل ذلك جاهلا له,وإن كان ممارسا للظاهر,فإنه كان عما في باطنه قاصراً,وغاية ذالك أنه كان جامعا للرسوم,غافلاً عن العلم والمعلوم,ولما فتح الله عليه بملاقاة الصوفية صار علمه بالله بعد أن كان بأحكام الله.قال عز الدين بن عبد السلام :"قد قعد القوم,أي الصوفية,على قواعد الشريعة التي لا تنهدم دنيا وأخرى,وقعد غيرهم على الرسوم"ومما يدلك على ذلك ما يقع على أيديهم من الكرامات والهداية للمخلوقات,وما يبرز من أفواههم من الحكم والموعظات,حتى يستفيد جالسهم ما لا يستفيد من غيرهم. وقد نقل النووي في (شرح المهذب عن الشافعي رضي الله عنهما أنّه قال: (استفدت من الصوفيّة في مجالستهم كلمتين قولهم الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك, وقولهم إن لم تشغل نفسك بالخير شغلتك بالشر).فانظر يا أخي صدق هذا الإمام الأعظم,كيف شهد للصوفية بالجد والاجتهاد . قال الشيخ الشعراني رضي الله عنه: (فانظر كيف نقل الشافعي ذلك عن الصوفيّة من دون غيرهم,وبهذا تعرف مزيد خصوصياتهم على غيرهم,إذ لو لم تكن لها خصوصية على الغير لما نقل ذلك عنهم ولم ينقله عن غيرهم من مشايخ العلم الظاهر الذي أخد عنهم ). 
وحاصل الأمر أنهم اتفقوا على هذا العلم أنه علم الصديقين وأنَّ من كان له نصيب منه فهو من المقربين فوق درجات أصحاب اليمين.فيا سعادة من كان له منه أدنى نصيب,ويا خيبة من نازع أهله بالجهل والتعصيب,وصار يحاججهم فيما لديه,ويلالجهم فيما لا يحصيه,فهذا أحمق حيث صار يحارب من لا يقاويه.قال بعض الحكماء :كل من حارب من لا يقاوى,جر إليه البلاوي.عليك أخي بحسن الظن بالله وبعباده الصالحين,وخصوصا أهل الطريقة,فإن الخوض في أعراضهم سم قاتل حفظنا الله والمسلمين منه.


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية