وبعدُ فالعون من الله المجيدْ
في نظمِ أبيات للأميِّ تُفيد
ذكر في هذه البيت أن العون من حيث هو من الله ، ودلّك في كل فعل من الأفعال ، سواء كان برًّا أو شرًّا ، حلواً أو مرًّا ، اختياراً أو جبراً . ولهذا قال :"من الله المجيد" إذ لو لم يكن العون كله من الله لما سمي مجيداً . ومعنى المجيد هو من بلغ الغاية في الشرف . ولأجل هذا صار الناظم رحمه الله يستعين به في الفعل القليل والكثير ، والصغير والكبير ، والجليل والحقير ، والطويل والقصير ، والباطن والظاهر ، حتى في النظم ، إذ لو لم يكن الله تبارك وتعالى هو المنظم لذلك النظم لما انتظم .
ثم اعلم أن لهذه المنظومة من الإشارة أسراراً غريبة ومعاني نفيسة لا يطلع على ما في باطنها إلا العلماء بالله ، فلهذا قال :"للأمي تُفيد" أي لا يستفيد حقيقتها إلا من كان أمي المقام . والأمي عند القوم من كان له حظ في الأمية النبويّة ، وهي متابعة النبي في أقواله وأفعاله وأحواله . فهذا هو الأمي الحقيقي ، ولو كان عالماً بسائر العلوم . ألا ترى بعض العلماء قبل دخولهم في الطريق تكون لهم صولة وعناية عند الحق ، وذلك كالشأن والرفعة والرئاسة وحب الدنيا والمحمدة والافتخار بالعلم ، ولما تمسكوا بالطريق تبدّلت أحوالهم في أغلب الأمور؟ . ويصير لهم حظ من الأمية النبوية وتكون سيرتهم وسائر أوصافهم موافقة لسيرة النبي صلى الله عليه وسلّم فحينئذ يكون أمي المقام ، متذلِّلاً في عزِّه ، منخفضاً في رفعته ، ضعيفاً في قوّته ، فقيراً في غنائه . وهذا هو المسمى بالقطب الجامع والترياق النافع ، يفهم الدقائق الخفية ، ويستخرج المعاني السنية من الألفاظ وإن كانت دنية . وأما من لم يشم رائحة هذا المقام ، بما أصابه من ريح الزكام ، فلا يطمع أن يفهم دقائق العلوم ، ما دام بلجام القطيعة ملجوم ، ومن ملاقاة أهل الله محروم ، لأنهم - رضي الله عنهم - قالوا : (لا يفهم كلامنا إلا من كان مثلنا). هذه خلاصة تدل على أن علم القوم لا يتوقف على قراءة أو اقتباس علوم ، وإنما هو موهبة ربانيّة :(مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ) (الشورى : 52) هذا معنى قوله :"الأمي" والله أعلم .
ثم بدأ يُبيِّنُ ما احتوت عليه هذه المنظومة المباركة من الأسرار ، وما اشتملت عليه من من المحاسن والأنوار ، فقال رضي الله عنه :
في عقد الأشعري وفقه مالِك
وفي طريقة الجنيد السالِك
ذكر في هذا البيت ما ينبغي للصوفي أن يتصف به من المراتب الثلاثة . والمراد منه التخلق بهذه الأحوال ، وذلك بأن يكون متلبساً في أفعاله وعبادته بفقه مالك ، أو بأحد الأئمة رضوان الله عليهم ، ويكون مستغرقا في باطنه ومستحضرا في الشهود طريقة الجنيد أحد الأئمة الصوفية . والمراد منه ألا يرى في الوجود إلا موجوده ، وذلك يدركه عن طريق الشهود والعيان لا عن طريق العلم . ثم إذا كان له رسوخ في هذا المقام فلا ينبغي له أن يتلفظ إلا بما يناسب عقول الخلق من العقائد ، كعقائد الأشعري وما وقع عليه الإجماع ، لئلا يكون حديثه عليهم فتنة ، لما يروى في الخبر حين سئل عليه الصلاة والسلام : هل يُحدِّثُ بكل ما سَمعَه منه ؟
فقال مجيباً للسائل : ألا أن يحدث أحدكم بحديث لا يبلغ عقول الناس أو كما قال . فيكون على بعضهم فتنة ، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في أبيات في هذا المعنى :
خاطبوا الناسَ في الذي ألفوهُ وتَجانَبْ خلاف ماألِفوهُ
إنَّ في الجاهلين عذراً عظيماً لو يرون التحقيقَ ما عرفوهُ
فإن قلت : أيكون للقوم عقيدة غير عقيدة الاشعري ؟
قلت : نعم ، للأشعري عقيدة خاصة في نفسه ، هي عقيدة الرجال ، ولا يتمكن ظهورها للأطفال . وقد يقال طعام الرجال يضر بالصبيان .
قال عليه الصلاة والسلام : (إنّ من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلاّ العلماء بالله, فإذا أظهروه أنكرته أهل الغرّة بالله) . فأين أنت من هذا العلم ؟ فإن لم يكن لك من نصيب فأنت كالعدم . والمقام لا يغنيك عن الحال ، لأن القوم لا يخاطبوننا إلا على قدر عقولنا راجعين لحديث :(خاطبوا الناس على قدر عقولهم) . ثم اعلم أن كل من الإمة الثلاثة ، وهم الأشعري ومالك والجنيد ، يتخلقون بهذه الاوصاف الثلاثة ، وانفرد كل واحد منهم بخاصية من طريق التغليب فقط ، وليكون قائما بمقام . فافهم وبالله التوفيق .