وللقلب وجهان ظاهرٌ وباطنٌ ، فباطنُهُ لا يَقبَلُ المَحو وظاهرُهُ فهوَ لوحُ الحقِّ والإثبات ، فيُثبتُ وقتاً أمرٌ مَّا ثم يمحا ، يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ، فلو كان صاحبُ الكتابِ مؤمنًا بكلِّ كتابٍ بهِ ما ضلَّ أبَدًا ، ولكن أَمِنَ ببَعضٍ وكفَرَ ببعضٍ فهو الكافر حقًّا ، ويقولونَ نؤمِنُ ببعضٍ ونكفرُ ببعضٍ ، أبى حقًّا ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وأُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ، وبهذه المثابة علماءُ الرّسومِ وعلماء الكلام يُصدّقون ببعضِ ما يأتي به أولياءُ الله فيما يُوافقُ علمهُم ونظَرهم ، ويكذّبونَ ما لا يوافقُ دَليلُهُم وفكرُهُم ، وهم لم تكمل لهم طرق العلم كلها ، فلا سَلَّمُوا بِما كَمْ يُحيطُوا بهِ لأهله ولا يلزمهم التصديقُ به ولا ردّوه ، فكانوا يجنُوا ثمرةَ"التلم" (1) ، فإني والله أخافُ على المنكرين ، فإنّه مَن رَدَّ على أولياء الله ما جائوا بهِ من عند الله ، نزع الله نُورُ الإيمان من قلبه . جادلَ بعضُ النُّظَّارِ وليًّا فتركَه وقامَ . قال صلى الله عليه وسلّم :(رأيتُ ليلة القَدْرِ فَتَلاحى رَجُلانِ فَرُفِعَتْ) وتنازَعَ بعضُ الصحابة ، فقال : عندي لاينبغي التنازع . فطريقُ الكشف والشهود لا يحتمل المجادلة والنزاع إذ فيه سوءُ أدبٍ ورفع بركةٍ ، وعقوبَتُهُ تعودُ على المُنكِرِ . ثمَّ لتعلم أنَّ للإيمان المؤيَّدُ بالأعمال الصالحة ، إقامةً في حضرَة اليَدِ المقدّسةِ ، فيرى عند إقامتها تَفَجُّر أنهار العلوم والمعارف ، فهذه حضرةُ الإقامة .
الثاني : حضرةُ النور .
الثالث : حضرة العقل .
الرابع : حضرة الإنسان وهي أتمُّ الحضرات وجودًا .
فحضرة الإقامة إذا نزلها العَبدُ شَرِبَ نهر الدَّيمومَة ، وأنتج له هذه العلوم بهذه الحضرة مقامَ الخشية الربّانيّة والرّضى الإلهي والخشيةُ الإلهيَّة ، تفتَحُ حضرةٌ أخرى غير هذه ذكرناها في الفتوحات . وكذا خشيَتُهُ الهُويَّةُ ، وهذا المنزل الذي ذكرناه هنا في هذا الكتاب ، هو من منازل الفنا وطلوع الشموس ، وله مرتبةَ الإحسان الذي يراكَ به لا الإحسان الذي تراه بِهِ . قال صلى الله عليه وسلّم : الإحسان أَن تَعبُدَ اللهَ كأنَّكَ تراهُ فإن لم تكُنْ تراهُ ، أي رؤيتُهُ لا تكونُ إلاَّ بفنائكَ عنكَ ، وأثبت الألف من تراه لأجل ظهورهِ لتتعلّق الرؤية به ، إذ لوحدتها لم تصح الرّؤية ، فإنَّ لها من تره كناية عن الغائب والغائب لا يرى ، والألف محدوفة فترى بلا رؤية هذا لا يصح فلهذا أثبت . وأمَّ ثبوت الهاء فإنَّ ترى أي إذا رأيت وجودَ الألف فلا تقل أحطت فإنه يتعالى عَنْ أَنْ يُحاطَ بِهِ وما لم يُحَطْ به تكون الهاءُ الذي هو ضميرُ مَا غاب عنك من حقيقتةِ الحق عند الرؤية تشهدُ لك بعدم الإحاطة فافهم تَفُزْ ، والحمد لله ربّ العالمين . كَمُلَ كتاب الفناء في المشاهدة .
** ** **
نقلا عن مخطوطة .
عنوان المخطوطة : الفناء في المشاهدة .
المؤلف : الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي
-------------
1 - غير واضحة في المخطوطة