آخر الأخبار

جاري التحميل ...

شرح منازل السائرين إلى الحقّ المبين - باب اليقظة


قال الله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ ) .
القومةُ لله تعالى هي اليقظةُ من سِنَةِ الغفلةِ ، والنهوضُ عن ورطةِ الفترةِ ، وهي أوّّلُ ما يستنير قلب العبدِ بالحياةِ لرؤيةِ نورِ التنبيهِ ، فإنَّ الشيخ رضي الله عنه (1) لمّا ذكرً أنَّ أكثر علماءِ هذه الطائفة اتَّفقوا على أنَّ النِّهايات لا تصحُّ إلاَّ بتصحيح البِدايات ، قدَّمَ ذكرَ البدايات ، وجعله أوَّلَ مقامٍ تكلَّم عليهِ .

ولمّا كانت اليقظةُ هي أوّلُ درجَةٍ في البداياتِ ، قدّمها على جميع أبواب البدايات .

ولمّا كان الموجبُ لهذه اليقظةِ هُو واعظ الله تعالى في قلبِ كلِّ مؤمنٍ ، استشهَدَ بالآية التي فيهَا ذكر الوعظ في قوله تعالى : قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ ، ولمّا كان واعظ الله تعالى في قلبِ كلِّ مؤمنٍ ، هو واحدًا ، وحَّدَ ذلك في الآية بنفسها ، فاستشهد به ، وذلك قوله تعالى : قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ ، قال تعالى : (وما أمرُنَا إلاَّ واحدةٌ) وهي تأثير الإسم الهادي جلَّ جلاله في قلوب المؤمنين وهو نورٌ ، قال تعالى : (الله نورُ السماواَتِ والأَرْضِ) ، ولذلك قال الشيخُ وهي أوّل ما يستنيرُ قلبُ العبدِ بالحياةِ ، فوصفَ القلبَ بالاستنارة ، وأكَّدَ ذلك بقوله لرؤية نورِ التّنبيهِ ، فجعلَ التّنبيهَ عن النّور ، وجعلَ اليقظةَ هي القومة إتِّباعًا للآية ، ولأنَّ القَومَةَ لمَنْ أرادَ السَّيْرَ إذا اسْتَيقظَ واجبَةٌ ، لأنَّه إذَا استَيقَظَ قَامَ ، وإذا قامَ سارَ ، فالقَوْمَةُ أَوّلُ العزمِ على السّيرِ ، فالمستيقظُ من سِنَةِ الغفلةِ يجبُ أن يكونَ كذلكَ ، فإذاً القوْمَةُ هي أوّل عزْمِ السّائرينَ إلى الله تعالى ، وهيَ اليَقَظَةُ ، أو مقارنةُ اليقَظةِ ، فترتيبُه محكمٌ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا .
قال الشيخ رضي الله عنه : واليقظة في ثلاثة أشياء : لحظُ القلبِ إلى النعمةِ على الإياسِ من عَدِّهَا ، والوقوفُ على حدِّها ، والتفرُّغُ إلى معرفةِ المنَّةِ بِهَا ، والعِلمُ بالتَّقصيِر في حَقِّهَا .

هذه الثلاثةُ أشياء هيَ ملازمةٌ لليقظةِ ، فعبَّرَ الشيخُ بها عن اليقظةِ ، وتسميَّةُ الشيء بمَا يُلازِمُهُ فصيحٌ في كلامِ العربِ ، ومثلُ ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى : ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) ، وتقديره واسأل أهلَ القريةِ ، فعبَّرَ بالقريةِ عن أهلِ القريةِ ، وتقدير كلام الشيخ : وأحكامُ اليقظة ثلاثة أشياء ، فأوّلها : ملاحظةُ القلبِ نعمةَ الله تعالى الظاهرةَ والباطنةَ ، قال جلَّ جلالهُ : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) ، ثمّ صحبه الإياس من عدِّها ، أي مِن إحصاءِ عدِّهَا . قال تعالى : (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) ، وصحبهُ الإياسُ أيضًا من الوقوف على حدِّها ، لأنّ مَنْ حَدَّهَا فَقد عَدَّهَا ، وكمَا لاسَبيلَ إلى عَدِّهَا ، فكذلكَ لا سبيلَ إلَى حَدِّهَا ، فالوقوفُ على حدِّهَا مُتَعضذِّرٌ ميئوسٌ منه ، والتفرّغِ إلأى مَعْرِفةِ المِنَّةِ بهَا ، والمِنَّةُ هيَ المَوْهِبَةُ ، أي يعرفُ العبدُ أنَّ نعمَ الله عليه بغيرِ استحقاقٍ ، وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وكذلك العلمُ بالتَّقصيرِ في حقِّها ، أي في حقِّ شكرِها ، لأنَّ من عجَز عن إحصاءِ عدِّها عجَزَ عن شكرهَا ضرورةً .

وهذه الأحكامُ تقوى بها اليقظة ُوتدومُ ، ألَا ترى إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيفَ قَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ ، فَقِيلَ لَهُ : أَلَيْسَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ : أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ؟ ! " . أي إنّ هذا القيامَ شكراً لله تعالى على بعضِ تلكَ النّعمِ التي أنعمَ بها . وأصلُ هذا الفضلِ الرِّغبةُ ، والذي بعدهُ الرَّهْبَةُ . 


**   **   **
1 - عبد الله الأنصاري الهروي

 شرح منازل السائرين إلي الحقّ المبين  - عفيف الدّين التلمساني

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية