نفحات الطريق

يعنى الموقع بالتأصيل الشرعي للتصوف المقتبس من مشكاة نور النبوة والتعريف بمقامات وأعلام الصوفية. إلى جانب نشر كتب ورسائل عن التصوف.

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

شرح صلاة القطب ابن مشيش لابن عجيبة - 2

وقد كانت قَبل ظهُور نورِهِ مَحجوبة باطنية ، تجلّى فيها الحقّ تعالى باسمه الباطن ، فلمّا أرادَ أن يتجلّى باسْمه الظاهر ، أَظهرَ قبضةً من نورِه ، فقال كُوني محمّداً ، فمِن تلك القبْضَة المُحمَّديّة ، تكوَّنَتِ الأكوانُ ، من العَرْشِ إلى الفرْشِ ، فما ظهرَت أسرار الذَّاتِ ، إلاَّ من تلكَ القبضة النّورانيّة ، فظاهرُها ذات ، وباطنها صفات ، وبتلك الصفات ، وقع التكثيف والتصويرُ ، والتعبيرُ ، والتشْكيل والتحيير.. وإلى ذلك أشار بقوله : "وانْفَلَقَتْ" أي من نوره صلى الله عليه وسلم ، انفلقَتْ ، أي انفلقت وظهرَت "الأنْوارُ" أي أنوار الصفات ، وأنوارُها : أي آثارها ؛ التي ظَهرتْ على ظاهر التجليّات . من تكثيفٍ وتلطيفٍ ، وتقييدٍ وتخصيصٍ ، وتشكيلٍ وتمييزٍ ، وإعزاٍز وإذلالٍ ، وخفضٍ ورفعٍ ، وقبضٍ وبسطٍ ، وغير ذلك من اختلاف الآثار ، وانتقالات الأطوار ، فهذه كلّها من آثار الصفات الأزليّة ، التي هي القُدْرَة ، والإرادَة ، والعِلْم ، والحَياة . والصِّفَات لا تفَاِرِقُ المَوصُوف ، لَكنْ لمَّا كانت الصِّفاتُ لَطيفة لا تُدْرَكُ أظهرَتْ نَفسَها في المَحسُوسات ، والذّات عَيْن الصِّفَات ، والصِّفات عينُ الذّات ، أي محلّها واحدٌ ، فحيثُ تجلّتِ الذّاتُ تجلَّتِ الصِّفاتُ ، وحيثُ ظَهرَتِ الصّفات ، ظَهرَتِ الذّات ، فعبَّروا عن هذا الكلام بالاتِّحادِ ، والعَيْن ، فأهلُ الفَرق وهُمْ أهلُ الحِجَابِ ، لا يَشْهدون إلاَّ الصِّفات ، أي أثَرها ؛ ومَحجوبون عَنْ شُهَودِ الذَّاتِ فكلُّ منْ دخلَ عالَم التكوين ، فهوَ منْ تلكَ القَبْضةِ ، فظاهرُها إلخ ... وأهْلُ الجمْع ؛ وهُم أهلُ الجَذْبِ والفَناء ، لايَشهَدونَ إلاَّ الذَّات ، ويغيبّونَ عن أثرِ الصّفات ، وأهلُ البقاءِ ؛ وهم أهْلُ الكَمالِ يَشهدوُنَ الذّات في الصّفاتِ ، والجَمْعَ في الفَرْقِ ، لا يَحجُبُهمْ جَمعُهُم عن فرْقِهِمْ ؛ ولا فرْقُهُمْ عن جَمْعِهِمْ ، يُعْطون كل ذي حقٍّ حقَّهُ ، ويوفون كلَّ ذي قِسْطٍ قِسْطَهُ . فكلامُ الشيخ رضي الله عنه من بابِ الترقّي ، فانشقاق الأسرار ؛ لأهل الفناءِ في الذّاتِ ؛ وهم أهْل الجَذْبِ والسكر . وانفلاق الأنْوارِ ؛ لأهلِ البقاءِ ، وهو الرجوع إلى شهود الأثَرِ ، وهمْ أَهْل السلوكِ بَعْدَ الجَذْبِ والفناء.

ويحتمل أن يريد بقوله : (منه انشَقَّت الأسرار) . أي أسرار الجبروت ، ومنه (انفَلقَت الأنوار) ، أي أنوار الملكوت . أو تقول : منه (انشَقّت الأسرار) . أي أسرار الحقيقة ، (وانفَلقَت الأنوار) ، أي أنوار الشريعة ، أو تقول : (منه انشقَّت الأسرار) ، أي أسْرار الإحسان ، (وانفلَقت الأنوار) ، أي أنوار الإيمان والإسلام . أو تقول : (منه انشقّت الأسرار) : أسرار عالَم الغَيْب ، (وانفلقَت الأنْوار) : أنوار عالَم الشَّهادَة . أو تقول : منه (انشَقَّت الأسرار) : أسرار القدرة . (وانفلقَتْ الأنوار) ، أنوار الحِكمة .

ويحتمل أنْ يكون كلامهُ من باب التَّدنِّي ، فيكون قدَّمَ أوَّلاً مقام أهل الإحسان من أهل الشهود والعِيان . ثمَّ نزلَ إلى مقام أهل الدّليل والبُرْهان ، وهُم أهل شهود أثر الصّفات ، قبلَ شُهود الذّاتِ ، فيكون قولُه : انْشَقَّتِ الأسْرار لأهْلِ الفَناءِ في الذَّاتِ . وانْفَلَقتِ الأَنْوارُ ؛ لأَهلِ الفَناءِ في الصِّفاتِ ، قبل الفَنَاءِ فِي الذَّاتِ . فإِنَّ عامَّة المتوجِّهينَ ، يَبْتَدِئون بِشُهودِِ الأَثَرِ ، ثُمَّ يَرْتَقونَ إلى شُهُودِ المُؤَثِّرِ بالشَّريعَةِ ، ثمَّ بالحَقيقَة وبالإسلام والإيمان ، ثمّ بالإحسان ، وبعالَم الشَّهادَة ، ثمَّ عالم الغَيْبِ ، وبالحِكْمَة ثمّ القُدْرَة ، فيكونُ أَوَّلاً في تَوْحيدِ الأَفْعَالِ : لا فَاعِلَ إلاَّ الله ؛ وهوَ نِهايَة الصالِحينَ ، ثمَّ في تَوحيدِ الصِّفاتِ : لاَ حَيّ وَلاَ قَادِر مريد ، ولاَ سَميعَ ، ولاَ بصيرَ ، ولاَ مُتَكلِّم إلاَّ الله ، ثمَّ في تَوحيدِ الذّاتِ : لاَ موجود إلاَّ الله ، ثمّ يزيدُون إلى مَقامِ البَقَاءِ ، وإلى ذلِكَ أشارَ بَعضُهُمْ بقولِهِ : 
ويَفنَى ثُمَّ يَفْنَى ثُمَّ يَفْنَى
فكانَ فَناؤُهُ عَيْنَ البَقَاءِ
ولقَد سمِعتُ شيخنَا البوزيدي رضي الله عنه يقول : طريقُنا ليسَ فيها إلاّ فنَاءَانِ : فناءُ الأفعال ، وفناءُ الذاتِ . وأمّا فناءُ الصِّفاتِ فهو مطوي في فناءِ الذّاتِ ... وكلامنا كله مع من وجَدَ شيخَ التربيّة ، وأمّا من لم يجد فلاَ كَلاَمَ معَهُ ، إذْ لاَ سِرَّ له . 
تنبيهٌ : إنّما خصَّ تجلِّي الذّات بالأسرار ، وتجَلّي الصّفات بالأنوار ؛ لأنَّ تجلّي الذّات لا يُدْرِكُه إلاّ الخَواصّ ، أو خواصّ الخواصّ . ومن شأنِ السرّ أن لا يُدرِكه ُ إلاّ الأفرَاد ، بِخِلاف تجلّي الصّفات ؛ وهوَ الأثر ، فيُدركُهُ العام والخاصّ . كما أنّ النّور كذلِكَ ، لا يَخفَى علَى أحَدٍ ، وإنّما خصَّ أيضاً السرّ بالشقّ ، والنّور بالفَلَقِ ، لأنَّ الشق يكونُ أوّلاً ، ثمّ يقعُ الفلق ثانياً . تقول : انشَقَّت الإناءُ إذَا لَمْ تَنْفَصِلْ فاحتَجَبَتْ بِلاَ حِجاب ، ولله درّ القائل : 
وَما احتَجَبَتْ إلاَّ بِرَفْعِ حِجَابِهَا 
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الظُّهُورَ تستّر 
وفي مشاهدتها على ثلاثة أقسام :
قسم يشهدونها بعد مشاهدة الأكوان ؛ وهم أهل الجذب والفناء . فإذا انفصل ، تقولُ انفَلَقَ ، كذلكَ انشَقَّتِ الأسرَار ، يكونُ أوّلاً لأهْلِ الفَناءِ ، وانفلاق الأنوار يكون ثانياً لأهلِ البقَاءِ بعدَ الفَناء . واعلم أنّ الأنوار الحسيّة ثلاثة : نورُ النجوم ، ونور القمر ، ونور الشّمس . والأنوار المعنويّة كذلك : نورُ الإسلام ، كنُور النُّجوم ، ونُور الإيمان كنور القَمَرِ ، ونُورُ الإحسان كنُورِ الشَّمْسِ فأوّلُ ما يُكْشَفُ للمُريد ، نورٌ ضعيف كَنور النّجوم ، فتراه يسقط ويقوم لخفاءِ الطريق ، تختفي . ثمّ يَبْدُو لَهُ قَمَرُ التّوحيد . فيقل عتارُهُ . ثمّ تطلع عليه شمس العِرفان ، فلا يخفى عليه مكانٌ ، وفي ذلكَ يقول المجدُوب رضي الله عنه : 
طَلَــــعَ النَّــــــــهارُ عَلَى الأَقْمـــــارِ
وَلاَ يَـــــــــــــبْـقَــــى إلاَّ رَبِّــــــــي
النَّــــــــــاسْ زَارَتْ مُــــــحَمَّــــــدْ 
وَأَنَا سَـــــــكَنْ لِـــــي فِي قَلْـــــبِي
وقال أيضاً :
طَـلَـعَ النَّـهـارُ عَـلَـى قَـلْـبِـي 
حَـتَّـى نَـظَـرْتُــهُ بِـعَــيْـنــيـــا
واعلم أن هذه الانوار ؛ التي انفلقت من نورِه عليه السلام ، انحجَبَت بسرّؤ الحِكمةِ في حالؤ ظهورِها ، إذْ لا بُدَّ للحَسْناءِ مِنْ نِقابٍ ، والشّمس مِن سَحأبٍ ، فاحْتَجَبَتْ بِلاَ حِجابٍ. 
والناس في مشاهدتها على ثلاثة أقسام : قسم يشهدونها بعد مشاهدة الأكوان ؛ وهُم أهلُ الجذبِ والفناءِ ، مِن أهلِ مقامِ الإحسان ، ولإليه أشارَ بعضُهُم بقولِه : ما رَأَيتُ شيئاً ، إلاّ رأيتُ الله قبله ، ولمْ أره حَديثاً ، وإما هو من قول بعض العارفين ، كالذي قبلَهُ . والله تعالى أعلَمُ .


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق