آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

الشريعة حق والحقيقة حقيقتها

الشريعة حق والحقيقة حقيقتها

   هذه النصوص نقلناها من مخطوط (بدون عنوان) كتب في القرن الثالث عشر هجري تقديرا ، وقد حاولنا قدر الإمكان تقديمه للقارئ بدون أخطاء  ، نسأل الله التوفيق .
 **   **   **
   فبطون الحقيقة في الشريعة كبطون الزبد في لبنه ، والكنز في معدنه ، فبدون مخض اللبن أوحفر المعدن لا يظفر من اللبن بزبده ، ولا يفوز من المعدن بدون بقصده ، فالمراد من الحقيقة والشريعة إقامة العبودية على الوجه المراد منك ، فكل شريعة بلا حقيقة فهي عاطلة ، وكل حقيقة بلا شريعة فهي باطلة ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحارثة: " كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ ؟ " فَقَالَ أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا ، قَالَ : " انْظُرْ إِلَى مَا تَقُولُ فَإِنَّ لِكُلِّ حقّ حَقِيقَةً " ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا ، فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي ، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي ، فَكَأَنِّي بِعَرْشِ رَبِّي بَارِزًا ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَعَاوُونَ فِيهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "عرَفْتَتَ فَالْزَمْ" .

   فالشريعة حق ، والحقيقة حقيقتها ، فالشريعة هي القيام بالأوامر ، والحقيقة مشاهدة الأمر ، والشريعة والحقيقة يجمعهما كلمتان إياك نعبد وإياك نستعين ، فإياك نعبد شريعته وإياك نستعين حقيقته .

   ثم اعلم أن العلم علمان : علم الظاهر للشريعة وعلم الباطن للحقيقة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"العلم علمان علم باللسان وعلم بالقلب فأما علم اللسان فهو حجة الله على العباد " وأما علم اللسان فهو علم العالم الذي لا يخشى إلا الله تعالى ، وعلم القلب هو العلم اللدني الذي لم يسطر في الطروش ، ولم يحفظ في الدروس ، وإنما هو تلقين عن الله تعالى بغير واسطة ملك ولا شفاهة رسول ، كما أن الخضر عليه السلام علم بالعلم اللدني ما لم يعلمه موسى عليه السلام بالوحي ، فقتل النفس الزكية بغيرنفس ، هذا على ظاهر الشرع عدوان محضِ ، لكن يظهره تحقيقُ فعله بعلم آخر لدني لم ينقل من الكتب والأوراق وإنما جاء به وحي من الملك الخلاق ، فوجب على موسى عليه السلام إنكار ذلك واستقباحه قياما بالحدود وعملا بالشريعة ، إذ هوشُروعٌ مقتدى به ، فلو أسبط عن الإنكار لاستحق به الإنكار ، فلذلك تأدب الخضر معه ، بقوله : إنك لن تستطيع معي صبرا ، فهنا غاية الأدب من الخضر عليه السلام ، لأنه عَلِمَ أنه يرى منه ما لا تقر به الشريعة ، فقال : إنك لن تستطيع معي صبرا على ما يخالف الشريعة ، ثم لمّا أعلمه الخضر عليه السلام مما لا يدخل في الشريعة ، علم موسى عليه السلام أن الشريعة جسد والحقيقة روحها ، وإذا لم يكن للحقيقة سفينة عرف بوجهها ، فإن قال قائل : كيف تصحب من ادعى الإنابة ، وكيف نقره على أي شيء عمل ، وما نظير ذلك في الخارج بأمثاله في المحسوس ، لتقبله العقول وتسلمه النفوس ، فأقول : اعلم أن للمحبة لطيفة روحانية يستولي بلطيف روحانيتها على كثيف جثمانية المحب ، فيذهب اللطيف بالكثيف ويتلاشا الجثمانية بالروحانية بقوة سلطان المحبة وذنوب المحب تحت قهرها ، فإن لنارها احتكام ولسلطانها اصطلام ، فإذا أدنت بحربها تُدعر كل شيء بأمر ربها ، فمحال أن يثبت مع المحبة سواها . وما مثال فناء المحب في بقاء المحبوب ، إلا كمثال النار إذا استولت بلطافة روحانيتها على كثافة جثمانية الخشب والحطب ، فتفنى بشرية الخشب وتبقى روحانية اللهب ، فالذي يشاهده هو الدخان الصاعد مع الخشب في بداية استيلاء النار عليه ، فإذا استحكمت النارذهبت ذاتية الخشب وانقطع الدخان ، فكذلك يتصاعد من بخارات حسك وجبالات نفسك في بدايتك ، فإذا دام استيلاء نار المحبة ذهبت ذاتيةُ صفاتك ، وقامت بصفاتها عن صفاتك ، وبوجودها عن وجودك ، ومثال كون المحبة في ذاتية المحب وسلب ذاتية المحب عن صفائها ، ككون النار في ذاتية الماء الحار ، فأنت تظنه في الصور ماء يغرق ، وهو في الحقيقة نار تحرق ، فلو أدنيت منه شيئا لأحرقك فإن قلت المحرقُ وهو النار فأين الماء وإن قلت المُحرق هو الماء فأين الحما النار.

   واعلم أن المحبوب يسلب أبداً بلطافة خاصيته خاصية المحب ويجذب أجزائها إليه بقوة سلطانه عليه كما أن المغناطيس تعلقت بداجن الحديد وانجدب إليه بداية ، فهو يدور معه حيث ما دار وينجذب إليه حيث ما سار، فمن أوصاف المحب الميل الدائم بالقلب الهائم ومخالفة الأنام . قلت في ذلك :



أيها العاشـق معنى حُسنِنا 
مهرنا غالٍ لمن يــــطلبنا

جسدٌ مضنى وروحٌ فى العنا 
وجفون لا تذوقُ الوسـنا

وفــــــؤادٌ ليـــس فيـه غـيـرنا 
فإذا ما شئت أدِ الـــثمنا

فافنِ إن شئت فناءً ســرمداً 
فالفنا يُدني إلى ذاك الغِنا

واخلع النعلين إن جئـت إلى 
ذلك الحي ففيه قدسنا 

وعن الكونين كــــن منخــلعا 
وأزل ما بيننا، مـــن بيننا 

واذا قيل من تهـــوى فقل أنا 
من أهوى ومن أهوى أنا

   ثم اعلم أن من أراد كشف هذا السر الخفي بالكشف الجلي فليتدبرمعنا سر قوله صلى الله عليه وسلم مخبرا عن ربه عز وجل :"لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا وفؤاداً" ففهمنا من ذلك أن علامة وصل المحبة لما اتصلت بها ألطافه وصل المحبوب لله واستمسك بعروته حتى أحببته قوى سلطان المحبوبية على سلطان المحبة ، فأفناه عن ذاته ونقاه عن صفاته ، ثم أقام ببقائه عن فنائه ، مبدلا الصفات بالصفا وقام الوجود بالوجود وجاب خلع الوجود على يد فبي يسمع وبي يبصر فصحت هناك الإنابية وذهبت الإبليلية واستحال بقدير البين في البين وتعذر أن يصير الواحد اثنين.

**   **   **
يتبع...

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق