آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

السـر فـي أنـفــاس الصـوفــية - 9

ويَروح القشيري تباعاً فينقل عن الجنيد إشارته في مطلع كتاب "السر في أنفاس الصوفية"؛ أن يذكر اسمه - وهو عجيب عندنا ! - ويكتفي بأن يقول ما نصه :"وقالوا (أي الصوفية) : خلق الله القلوب وجعلها معادن المعرفة، وخلق الأسرار وراءها أي بعدها وجعلها محلاً للتوحيد، فكل نفَس حصل من غير دلالة المعرفة وإشارة التوحيد على بساط الاضطرار، فهو ميّتٌ وصاحبه مسؤول عنه.

فإذا شئنا أن نقارن بين هذه الفقرة التي ذكرها القشيري من كلام الجنيد دون أن يذكر اسمه، وبين نص إشارة الجنيد التي هي مطلع كتاب السر، لوجدنا أن لا اختلاف بينهما سوى صياغة طفيفة للقشيري يُصاحبها تغيير طفيف في بعض الألفاظ المُعبَّرُ عنها في لبِّ الإشارة. ولتلحظ قول الجنيد : إن الله خلق القلوب وجعل داخلها سرُّه، وخلق الأنفاس وجعل مخرجها من داخل القلب؛ بين سر وقلب، ووضع معرفته في القلب وتوحيده في السر، فما منْ نَفَس يخرج إلا بإشارة التوحيد على دلالة المعرفة في بساط الاضطرار إلى الربوبية. وكل نَفَس خلاف ذا، فهو ميّت وصاحبه مسؤلٌ عنه.

ونلاحظ مساق النص الذي ذكره القشيري مقارنةً - ولو فيما نراه نحن من جانبنا - بما وردَ من إشارة الجنيد في مطلع كتاب السر ملاحظتين. الملاحظة الأولى شكلية : هي أن القشيري قد عرف كتاب "السر في أنفاس الصوفية"، لأبي القاسم الجنيد ونقل عنه إما بالمباشرة أو عن طريق أستاذه أبي علي الدقاق. وإذا كان لم يشأ أن يذكر اسمه - سهواً أو عمداً لا ندري! - مع أن أكثر مرويّات الرسالة أكثرها عن الجنيد؛ فإنه من جانب آخر قد جعلَ النَّفَس في الاصطلاح الصوفي في رسالته أعلى المراتب الروحية، واعتبر الأنفاس خاصَّة للسرائر، وهو هو نفس عنوان كتاب الإمام الجنيد.

والملاحظة الثانية جوهرية في الموضوع : وهي أن الجنيد في إشارته العميقة جعل النَّفَس الذي يخرج بإشارة التوحيد الذي هو في السر؛ دلالة على المعرفة التي هي القلب؛ إنْ هو إلا محض عبودية. ومن كان بساط الاضطرار عبودية محضة، والعبودية المحضة اضطرارٌ دائم إلى الربوبية تقوم على مراقبة الأنفاس، وليس يمكن للنَّفَس الذي يخرج من صاحبه في غير معرفة الله إلا أن يكون في في عداد الموتى حقيقةً. وصاحبه - لكونه ميِّتاً ليس فيه حياة بالله ولا مع الله - مسؤولُ عنه.

وعليه يتبيَّن؛ أن مراقبة الأنفاس عبودية محض عبودية ما في ذلك شك، وأن العبودية المحضة اضطرارٌ دائمٌ إلى الربوبية يترتبُ عليها ضرورةُ مراقبة الأنفاس. وليس من شك أيضاً في أن هذه العبادة التي يراعى فيها "عَدُّ الأنفاس" مع الله سبحانه، أو مراقبتها بالتعظيم لهي أدب عظيم من آداب العبودية لم يتنبَّه إليه سوى المتصوفة قاصدين من وراء ذلك مداواة الأمراض التي تتجدد في القلوب في كل زمان؛ مداواتها بذكر الله الذي لا ينقطع من جهة، ثم البقاء من جهة أخرى في رحاب المعية الإلهية على الدوام بغير فتور ولا انقطاع حين يتصل هذا البقاء بمراعة الأنفاس ومراقبتها في رحاب الله من حيث إن النَّفَس هو العمر، وبمجموعة الأنفاس يتكون العمر البشري.

ولما كانت أمراض القلوب تتجدد في كل زمان، وكان لكل زمان أمراض غير أمراض أهل الزمن الذي قبله، فقد نقل الشعراني عن شيخه "علي الخواص" :(إنَّ لكل وقت له مرض جديد، بل لكل نفَس له حال غير الآخر، كما يُشاهد ذلك أهل الله تعالى، وهي مرتبة الكُمَّل من أصحاب الأنفاس).

غير أن القشيري ينقل عن أستاذه فيقول سمعت الأستاذ أبا علي الدّقَّاق رحمه الله تعالى يقول :(العارف لا يَسلم له النَّفَس؛ لأنه لا مسامحة تجري معه، والمحب لا بد له من نَفَس ولولا ذلك لتلاشى). وهذه الإشارة فوق كونها تدل أيضاً على معرفة القشيري ومعرفة أستاذه الدّقّاق بكتاب "السر في أنفاس الصوفيّة"؛ فإنه يمكن تخريجها في ضوء إشارات هذا الكتاب نفسه، على معنى أن العارف لما كان عيشه بالذكر لا يفتر عنه ولا يغفل، فليس للنَّفَس أن يسلم له، لأنه لو سَلّم له النّفَس وغفل عن أنفاسه لفقد الراحة التي يجدها من لطائف الغيوب، وفي هذا الفقدان لا مسامحة تجري معه.

أما المحب فلا بد له من نَفَس؛ لأنه ذو صبابة ولوعة واشتياق، فلو لم تلاطفه رحمات الغيوب لتلاشى من فوره وذاب. ولما كان المحب صاحب لوعة واشتياق فسكوته هلاك محقق فلا بد له من أنين، فإذا سكت عنه هلك. أما العارف، وهو ذو قدم راسخ في عالم الشواهد الروحية؛ فلا بد له من سكوت، وإلا فهو الهلاك المحقق، كما قال أبو بكر الشبلي في إشارة عميقة من إشارات كتاب السر تعبر عن هذا المعنى وتصيبه من أيسرر طريق :"المحب إذا سكتَ هَلَك. والعارف إذا لم يسكت هلك".

من ذلك ترى؛ أن مراقبة الأنفاس : رعايتها وصيانتها والحفاظ عليها وعدُّها مع الله سبحانه وتعالى، إنما هي أدب عظيم من آداب العبودية عند القوم، عرفوه كوسيلة من وسائل التقرب إليه سبحانه في كل حال، وعلى أية حال، ومع كل حال، وعدُّوه الأدب الذي تتولاه السرائر لديهم وترعاه، فهو مخصوص بالسرائر الباطنة فلا هو "وقت" ولا هو "حال"؛ ولكنه فوق الوقت وفوق الحال كما ذهب القشيري في اصطلاحات الرسالة.

بيد أن هذا الأدب يقوم فيما يقوم عليه عندهم على رياضة أساسها المراقبة للأنفاس، وهو فوق كونه رياضة يذكر فيها الصوفي الله ليراقب أنفاسه يُخرجها بالأدب ويدخلها بالأدب شهيقاً وزفيراً وعليها خلعَة الحضور، تجيء مراقبة الأنفاس عبودية محض عبودية خالصة، يرعى فيها العبد آداب التقدير؛ على ما قال ابن عطاء الله السكندري في حكَمِه :"مَا منْ نَفَسٍ تُبْدِيهِ إلاّ ولَهُ فيكَ قَدَرٌ يُمْضيهِ".



التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق