المقدمة الرابعة : في أنّ لذة المعرفة الكشفية قد تحصل في الدنيا واختلاف مراتبها.
اعلم أن هذه اللطيفة الربانية التي فينا إذا حصل لها بالتصفية والمجاهدة والعلم الإلهامي كما قدمناه، ويسمّى كشفاً واطِّلاعاً، فهو ذو مراتب تختلف وتتفاوَت بتفاوت الصفا والتخلص من الكَدُرات، فمبدؤها المحاضرةُ، وهي آخر مراتب الحجابِ وأول مراتب الكشف، ثم بعدها المكاشفة ثم بعدها المشاهدةُ، ولا تكون إلاّ إذا امَّحت آثار الإنية. قال الجنيد رضي الله عنه :(صاحب المحاضرة مربوطٌ بآياته، وصاحب المكاشفة يُدنيه علمه، وصاحبُ المشاهدة تمحُوه معرفته). قال الاستاذ أبو القاسم :(المحاضرة حضور القلب، وقد يكون بتواتر البرهان، وهو بَعد وراء السرِّ، وإن كان حاضراً باستيلاء الذكر، ثم بعده المكاشفةُ وهو حضورُهُ بنعتِ البيانٍِ غير مفتقر في هذه الحالة إلى تأمُّل الدَّليل وتطلُّبُ السبيل، ولا مستجيرٍ من دواعي الرَّيبِ ولا محجوب عن نعت الغيب، ثم المشاهدةُ وهو وجود الحق من غير بقاء تهمة). ومثال هذا التفاوت في الاتِّضاح أن تَبْصُرَ زيداً في الدار عن قربٍ، وفي صُحنِ الدّار في وقت إشراق الشمس، فهذا كمال الإدراك، وآخر يدركه في بيت، أو من بُعْدٍ، أو في وقتِ عشية فيَتْمَثِلُ من صورته ما يتيقنُ معه أنه هُو، ولكن لا تتمثلُ في نفسه الدقائق والخفايا من صورته، ومثل هذا يتصوَّر في تفاوت المكاشفة للعلوم الإلهية، وأقصى مراتب هذا الكشفِ وأعلاها هو رتبة المشاهدة، وهو المعرفة بالله وصفاته وأفعاله وأسرار ملكوته في أكمل رُتَبِ المعرفة. وقد بيّنا أن المعرفة بذْرٌ في هذه اللطيفة تُيسِّرُها في الآخرة للسعادَة الكبرى التي هي النظر إلى وجه الله، وأن تلك السعادة التي هي التجلي هناك تتفاوت بتفاوت المعرفة هنا، والرتبة العليا من المعرفة التي هي المشاهدة عزيزة الوجودِ شريفةٌ شريدةٌ، وإنما تحصل لمن انتهى صفاء قلبه إلى الغاية التي لا فوقها.
وإذا تقررت هذه المقدمات فلبين حَال القوم في هذه المجاهدة والتصفية، وما اشترطوا في إفضائها إلى الكشف من الشروط والأحكام والآداب، وما تواضَعُوا عليه من الاصطلاحات وكيف غلب استعمال التصوف في هذا حتى صار علماً عليه ولقباً له كما وعدنا بذلك كله قبلُ.
اعلم أنّا كنا شرحْنا مسمى هذه الطريقة عند الصَّدْر الأول من القوم، وأنها رعايةُ الأدب في البواطن والظواهر، ثم لما أقبلوا على مُراعاة بواطنهم، وتوغلوا في تخليص قلوبهم وحفظ أسرارهم، وحصلت فيها التصفية فأشرقت أنوار العلمِ الإلهامي كما قدّمنا انه ناشئ عن التصفية وارتفعَ الحجاب فحصلت الّلذّةُ، ووقع التّمادي في ذلك فحصلت المكاشفة، ثم وقعت المشاهدة لمن تمكن في مقامات شهوده وسلوكه، وبلغَ الغاية من صفاء قلبه. واشترطوا في المجاهدة والتصفية المفضيَّة إلى حصول العلم الإلهامي شروطاً نذكرها فيما بعد، وصارت رعاية الآداب الشرعية في الباطن والظاهر من أوائل المعارج لهذه المجاهدة، إلاّ أنّ الراسخين منهم لا يستحِثُّون رَكب المشاهدة لما فيه عندهم من الغَرر، وأنّ القوى البشرية عاجزة عن احتمال المطلعِ ويرون أن اليسيرَ من رفع الحجاب وحصول المعرفة الإلهامية بذر في القلب لحصول النظر في الآخرة، ولو كان بذراً قليلاً فهو أولى من البَذْر الكثير المُقتَرن بالخطر الشديد والغرر العظيم؛ وهذا مُشاهِدٌ فان كثيراً، ممن استحكَمَت فيه التصفية وبلغت بعد رفع الحجاب مبالغَها غافصة (1)إشراق أنوار التجلي والمشاهدة عند امّحاء ذاته فغرقوا في بحر التلف.
فمنهم من هلك لحينه، كما وقع للمريد الذي كان يقول : رأيتُ الله، فقال أبو يزيد : لو رآني هلك، فعرض له فلما وقع بصره على أبي يزيد مات. في قصة مشهورة، وأمثاله.
ومنهم من اختُطِفَ وجُذِبَ وفَقَدَ عقل التكليف، ولحق بالمجانين والمُستَهتَرين كبهلول من شيوخ الرياسة وغيره.
ومنهم من يبقى شاخصاً غير مُتحرك إلى أن يموت. ومنهم من يثبتُ لهذه المشاهدة وإشراق أنوار التجلي وقليل ما هم، قل صلى الله عليه وسلم : (إنّ لله سبعين حجاباً من نور، فلو كشف عن وجهه لأحرقت سُبُحاتُ وجْهِهِ ما أدرك بَصَرُه).
وقد يكون صاحب هذه المشاهدة متجاوزٌ لمقامها متمكناً فيه، فيكون أثبت لهذا التجلي وأقوى على احتماله، فإنَّ المريد إذا استولى على مقام فهوَ ما دام يستولي عليه يتمكن فيما قبله.
قال الأستاذ أبو القاسم في باب البواده : (ومنهم من يكون فوق ما يفجؤه حالاً وقوة، أولئك سادة الوقت).
** ** **
1 - غافصة : فاجأه وأخده على غرة.