فالمرادُ بالتوحيد ظهورُ صفته الوحدانية للعبد حتى ينمحق كله فيها ولا يبقى له أثر إلا مجرد التصديق القلبي بأن ذلك حق والإيمان هو التصديق بحقيقة ذلك والاعتراف به والإذعان له، فالتوحيد المذكور اضطراري لا تصرف للعبد فيه والإيمان اختياري يمكنه التصرف فيه ولذلك قال تعالى : ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) وذلك لأن الإيمان اختياري لهم فأمكنهم الإتيان به وأما التوحيد فلكونه اضطرارياً لم يمكنهم الإتيان به، وإنما أمكن بعضهم عناية من الله تعالى، وهذا التوحيد المذكور هو التوحيد القلبي المعتبر، وأما التوحيد اللساني الذي اعتبر الشرع من حيث الظاهر للحكم الدنيوي كتوحيد المنافق فهو كثير، وليس المراد هنا بالتوحيد ذلك أصلاً، ولا يذهب عليك أنّ التوحيد اضطراري كما ذكرنا فكيف يمكن تجديده لأنَّا نقول تجديده بمعاطاة أسبابه المؤدية إليه من معرفة النفس والكون.
وفي الجمع بين التوحيد والإيمان إشارة إلى أن كلاًّ منهما لا يعتبر بدون الآخر على المعنى الذي ذكرناه إذ من عنده توحيد، ولا تصديق له بحقيقة توحيده فهو هالكٌ، ومن عنده تصديق بحقيقة ذلك، ولا توحيد له بالمعنى المذكور، فهو غير سالك فإن قلت قال الشيخ رضي الله عنه فيما سبق، فتستغفر منك، وقال هنا فتجدد له توحيداً وإيماناً ولم يذكر الاستغفار.
قلتُ : لأن في الأول يظهر لك أنه هو لا أنت فيكون ذنبك الذي هو أنت ذنباً سبق منك لا أنت فيه فتستغفر منه.
وأما هُنا فقد بانَ لك الشرك، فلو استغفرت منه ألف مرة، وهو مقيم فيك ما أفادك ذلك شيئاً، بل يتعين عليك إزالته بأنْ تجدد توحيداً وإيماناً، فإن التوبة من كلِّ ذنبٍ بحسب ذلك الذنب.
وفي قول الشيخ رضي الله عنه فكلما أخلصت يكشف لك وكلما وحّدت بان لك إشارة إلى أنَّ هذا الكشف، وهذا البيانُ يتجددان بتجدد الإخلاص والتوحيد ويدوم الترقي فيهما بدوامهما، فربما كان التوحيد كشفاً لقومٍ وهو حجابٌ لقومٍ آخرين، بل هو عندهم إلحاد فيحتاجون إلى الخروج عنه، كما أشار إلى ذلك الإمام الهروي في آخر كتابه "منازل السائرين" بقوله :
ما وحّدَ الواحدُ من واحدٍ إذ كُل من وحّده جاحدُ
توحيدُ من ينطقُ عن نعتهِ عارية أبطلها الواحدُ
توحيدُه إياه توحيده ونعت من ينعته لاحدُ
فإن توحيد الموحد يقتضي وجود موحد وموحد وتوحيده وهي ثلاثة أشياء في نفس كلّ موحد وإن كان يجهلها ومع التثليث أين التوحيد ونعت من ينعته إلحاد لأنه إنما ينعته بما فهم من نعوته الواردة عنه تعالى والذي فهمه منها بعيد عن حقيقة المراد بها لأنها قديمة وما فهمه حادثٌ فقد عدل عن حقيقة النعوت القديمة إلى المعاني الحادثةِ التي فهمها والعدول عن ذلك إلحاد وكلما خرجت أي : أعرضت عنهم، أي : عن جميع الأغيار ولم يتقدم لهم ذكر لعدم إرادة أغيار مخصوصين وغلب جماعة الذكور على غيرهم لصعوبة الخروج عنهم بالنسبة إلى غيرهم لكمال الاحتياج إليهم في المهمات ومعنى هذا الخروج أنْ تجد نفسك خارجةً لتحققها بمعرفةِ من خرجت عنه لأنه عدم صرف لابسٌ ثوبَ الوجود المستعارِ لا تخيّل ذلك في الذهن وإتقانه بالحفظِ حجابٌ له على الحقيقة (زاد) أي : كثُر نوراً وإشراقاً إيمانك، أي : تصديقك بالله تعالى وإذعانك له لأن التصديق بالشيء يزداد إذا اقتصر النظر عليه وآيات الله تعالى في الآفاق وفي الأنفس، إذا تبصر فيها المؤمن ازداد إيمانه فصار شهوداً للغيب ومعاينةً له من وراء أستار الجلال والكبرياء قال تعالى : (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ) فإيمانهم الأول كان تصديقاً والثاني شهود، ولا شكَّ أنَّ هذا الشهود زيادةٌ على التصديق (وكلما خرجت) أي : انفصلت (عنك)، أي عن نفسك زيادة على خروجك عن سائر الأغيار فإنَّ الخروجَ عن الغير يحتاج إلى ممتاز عن ذلك الغير، وإلى خارج عنه، والممتاز، والخارج هو النفس فلا بد منها في مقام الإيمان.