آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

خمرة الحان ورنة الألحان شرح رسالة الشيخ أرسلان/النتبلسي-6

وإن كان شهوداً ومعاينة فإن حجاب الغيب مسدول وسترُ العظمة لا يزول، فإذا خرج عن نفسه أيضاً لا يبقى ممتاز ولا خارج فزال الحجاب وانقشع الستر وانجاب فعند ذلك (قوي) أي : اشتد (يقينُك) بالله تعالى حتى صرت عالماً ربانياً، قال تعالى : {وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} والرباني منسوبٌ إلى الرب، ولولا خروجهِ عن النفس ما نسب إلى الرب، وغير الرباني النفساني وهو المنسوب إلى نفسه لقيامه بها لا بربه يعني في زعمه، وإلا فإن الكل قائمون بربهم. والمراد باليقين سكونُ القلبِ إلى الله تعالى وعدم تحركه إليه لتحققه به، وإنما قال في الإيمان زاد وفي اليقين قوي لأنه ذكر الخروج عنهم مع الإيمان وهم كثيرون، والكثرة تناسبها الزيادة وذكر الخروج عن النفس مع اليقين والنفس واحدةٌ فيناسبها القوة.

ثم استشعر الشيخ رضي الله عنه بموانع تحصل للسالك في طريق المعرفة ترجع به من الجمع إلى الفرق فنبه عليها بقوله: (يا أسير) أي : مأسور فعيل بمعنى مفعول بني للمبالغة (الشهوات) المباحة فضلا عن المحرمة وهي أنواع كثيرة : شهوة مأكل ومشرب، وملبس ومنكح، ومسكن ومركب، ومال وولد، ودنيا وجاه، وخدم وعلم، وصاحب ونزهة إلى غير ذلك. وإنما كان أسيرها لميلهِ إليها، واشتغاله بها، ورغبة فيها دون ربه، وقدمها في الذكرلأنها أدنى حالة وأقوى مانع، وأكثر وجوداً، ولأنها أصل في جميع ما بعدها. 

فإن قلت الأنبياء عليهم السلام كانوا يستعملون الشهوات المباحة على اختلاف أنواعها وسليمان عليه السلام قال : {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي} فقد طلب الجاه العظيم في الدنيا، وحصل له ذلك، قلت : استعمال الأنبياء عليهم السلام للشهوات استعمال روحانيا، فهي لذائذ لا شهوات، واستعمال غيرهم لها استعمالا نفسانيا، فلذلك سميت شهوات، وإذا كان الولي يصل إلى مرتبة تصير نفسه فيها روحاً، وتصيرُ شهواته لذةً روحانية، ويعودَ شغلهُ الباطني بالأغيار علماً وفهماً في الله تعالى، فما بالك بالأنبياء عليهم السلام، وهم أكمل خلق الله تعالى.

 والحاصلُ أن المنهمكَ في الشهوات له روحٌ ونفسٌ، وتلك الشهوات التي انهمكَ فيها لها باطنٌ ولها ظاهرٌ، فالروح تنهمك في الباطن والنفس تنهمك في الظاهر، فإذا كان العبد ظاهرياً محضاً غافلاً عن الباطن، كان انهماكه انهماكَ شهواتٍ نفسيةٍ في أمر دني زائل، وهو الظاهر، وإذا كان باطنياً عارفاً كانت روحُه منهمكةٌ في أمرٍ عظيم باقِ لا يفنى، وذلك الأمر الباطني العظيم من لازمه ذلك الظاهر فلا بد منه. ولهذا كانت الملائكة لا يزدادون ولا ينقصون في مقاماتهم، لعدم معاطاتهم لهذه الأمور العظيمة الباطنة التي ظاهرها هذه الشهوات الجسمانية لأنها أسرارٌ بين الله تعالى وبين الأرواح، ولا تظهر للنفوس كما هي، بل تظهر على خلاف ما هي عليه فهي مذمومة لذلك، ومن لازم ظهور الأمر على خلاف ما هو عليه زواله وفناؤه من حيث هو خلاف ما هو عليه، (والعبادات) ثني بها لأنها أصرح في ذلك مما بعده وهي جمع عبادة اسم لكل ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى من أنواع الطاعات الظاهرة كأفعال الجوارح، والباطنة كالإيمان، والتوحيد والمعرفة، وإنما كان أسيرها لمحبته لها لا لله تعالى، ونظره إليها لا إلى الله تعالى، واشتغاله بها لا بالله تعالى، بل هو غائب عن الله تعالى الذي هو غائب عنه لعدم حيائه منه، فالعبادات التي هذا شأنها عنده ذنوبٌ له لا عبادات.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق