آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

كتاب : رهان الأرواح في صحبة قطب الصلاح الشيخ سيدي حمزة القادري بودشيش -11

رابعا: ترسيخ الحـال وتوسيع دائرة المقال

هكذا ازداد نشاطي في الطريقة وتكثفت لدي الرغبة في الالتزام بالذكر ومواصلة الحضور إلى الزاوية،لكن هذه المرة بدأت تنتابني بعض الومضات من الأحوال التي كانت تطرأ على باقي الفقراء.
إنه شعور غير عادي ودقيق، وفي نفس الوقت له قابلية ولذة متميزة تدق على جوانب القلب وتحوم حوله لتحركه بعنف وشدة،فتنتفض معه الجوارح بمجرد ما يمر بخاطري أو مخيلتي صورة الشيخ و يهتز روحي ومعه فرائصي سواء قصدت هذا الخيال أم كان هاجما بغير إرادة ! 

من هنا فقد يطرح بعض السطحيين اعتراضاتهم حول الأحوال بسبب رؤية الشيخ ويسقطون أحكاما لا أساس لها من الصحة أو القيمة العلمية، وذلك حينما يتوهمون أن تلك الأحوال بمثابة تقديس للشيخ أو عبادته... 
فهذا وهم ما بعده من وهم!وإنما الشيخ هنا يكون دالا قويا بالحال على الله تعالى،بحسب قربه وبحسب حضوره في مناجاته، إذ "المرء مع من أحب". 
من ثم فأحوال المريدين تكون مقتبسة من أحوال الشيخ في تعامله مع الله تعالى، فتنعكس على من هو مرتبط به من أجل هذا التعامل ذاته " ومحبوب المحبوب محبوب والمعطوف على المرفوع مرفوع كما على المجرور مجرور!". 
إضافة إلى هذا "إن لله رجالا إذا رؤوا ذكر الله"كما ورد به الحديث الشريف سبق و تحدثنا عنه بتفصيل في كتاب "الطريقة القادرية البودشيشية :شيخ ومنهج تربية"و"البعد التوحيدي للذكر في الإسلام:الوسيلة والغاية"..!. 
فكان هذا الحال بمثابة الضابط للاستمرار في الطريقة والتيقن من الداخل بأن واقعها الروحي ليس مجرد ظواهر وشعارات أو شعائر،وإنما هي مرتكزة على زاد عميق ونفوذ إلى الخارج بفيضه ووفرته،أو بعبارة أخرى إنها مشخصة للروحانية الصادقة بالدلائل الجسمانية الباسقة! 

هكذا إذن؛ كلما ازددت ذكرا إلا وازداد الحال قوة وفيضا،غير أن نصيبي من هذا الحال كان يتميز بشكل متجزئ،أي أنه كان لا يأخذ صورة الاسترسال الطويل كما يعبر عنه بالتحضير أو الحضرة والعمارة،وإنما كان وما يزال لحد الآن ينطبع بطابع التماس،كما يحدث عند التعرض للمَسِّ الكهربائي التنبيهي والمنكفئ في الحين. 
حتى إنه لما أخذني الوُجْد مرة في الزاوية بمداغ وابتدأت في الاسترسال حدث لي نوع من الخوف وتوقف معه ذلك الحال،فلما زرت الشيخ في تلك الليلة بالذات قال لي بالحرف:"إذا جاءك الحال فلا تخف منه!". 

فكأنه كان بداخل قلبي يشعر بما أشعر به فيعالجني من خلال معرفته تلك، وهذا يمثل قمة العرفان ووحدة الروح في اختراقها للزمان والمكان ويذهب بموضوع التواصل إلى أبعد مدى!!! 
غير أن الحال المسترسل الذي أصبحت أعيشه في ظل الطريقة هو:ذلك السرحان الفكري في عالم المعرفة واقتناص المعاني وتحويل ما أقرأه بغير تكلف أو تصنع لصالح الطريقة والدفاع عنها بالأدلة والحجج التي كانت تتجلى لي من خلال قراءة القرآن الكريم والأحاديث النبوية
فرغم بعض السلبيات التي كانت تظهر على بعض الإخوان الفقراء وعلي شخصيا،سلوكيا وفكريا، إلا أنها كانت تمثل قاعدة تربوية يمكن تبريرها واعتبارها ذات دلالة في إطار المنهج التربوي الواسع للطريقة. 

بحيث أن الشيخ سيدي حمزة قد عبر عنها ببلاغة متناهية ووعي طبي سليم حينما وصف الطريقة بمثابة :المستشفى الذي يدخله كل مريض مع اختلاف حالة كل واحد: من مرض بسيط وعرضي إلى مرض مزمن إلى مرض مستعصي علاجه،كما من المرضى من يستحلي حالة المرض فيصبح متمارضا رغم وجود أسباب الشفاء أمامه كما هو حال الهستيريين وغيرهم وهكذا... 

أمام هذا الزخم المعرفي فقد كنت أستلقي على قفاي عند النوم وتمر بي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ثم تتوالد عندها المعاني والأفكار المستلذة، فأجد في ذلك حافزا وقوة شديدة للنهوض وللتعبير والمجادلة والمحاجة. 
فلقد عادت لدي الرغبة –أخيرا- في المطالعة بعدما كنت قد هجرت الدراسة وانفصلت عن المتابعة لمرتين متتاليتين،لغاية أنني بقيت في البطالة الشاملة لمدة سنة أو أكثر،حتى بدأت أفكر في عمل ما؛بل زاولت بعض الحرف وامتهنت لفترة قصيرة التجارة على سبيل التدرب والتعلم أملا في الكسب وملء الفراغ.! 
إن أشد شيء كان على نفسي هو أن أجلس عاطلا عن العمل؛ أي عمل كان، بعدما فشلت في الدراسة وأصبحت كلا على والدي وعلى المجتمع. 
هكذا وبالرغم من محاولة والدي استدراك الموقف ،لإعادة تسجيلي بالثانوية غير التي كنت أدرس فيها، فقد جاءت بعد فوات الأوان وعندما داخلني اليأس والنفور،الذي كان سببه كما قلت تراكمات موضوعية وذاتية شخصية حالت دون تحقيق هذا الاستدراك ... 
من هنا فقد حكم علي بالفشل؛ على الأقل في ميدان الدراسة، وكاد يداخلني القنوط وسدت أمام وجهي الأبواب والآفاق، إضافة إلى نوع شعور بالخوف كنت أعانيه لعدة أسباب سبق وأشرت إلى بعض منها . 

إذ في هذه الفترة وعند هذه الظروف والأحوال النفسية الميئوس منها كانت الطريقة تزودني بفيوضها الروحية، وتعوضني هذا النقص بأنوارها الربانية وأحوالها الزكية ومعانيها السامية،لرفع همتي وانتشال شخصيتي من براثن الوساوس والأوهام وأدران الذلة والهوان. 
فكان عزائي في هذا المصاب والمطب هو الإكثار من ذكر الله تعالى والصلاة على نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والتزام الحضور إلى الزاوية. 
موازاة مع هذا فقد لاحظ علي بعض الإخوان تطورا ويقظة فكرية من خلال ما كنت أعبر عنه من وعي بالقضايا الصوفية ودقائقها النظرية، التي كما سبق وقلت كنت أهتم بها أكثر من اهتمامي بالدروس الرسمية والمقررات الدراسية... 
فكان أن فتحوا لي المجال للمذاكرة والمساهمة في إلقاء بعض الكلمات التوجيهية التي سأكتب بعضا منها فيما بعد، كما بقيت محتفظا بها لمدة طويلة إلى أن جاء دور الكتابة الرسمية وعلى شكل مفصل في إطار البحث العلمي الجامعي.!!! 
يحدث كل هذا بعدما كنت لم يعد باستطاعتي أن أصوب نظري إلى صفحة مكتوبة لقراءتها،بل قد أحول وجهي عنها وكأنه شيء ضار سيعمي بصري .! 
إنه شيء غريب وعجيب ذاك الذي كنت أعاني منه في تلك الفترة،كما سأعتبر أن إزاحته عني في فترة قياسية وبصورة مضادة كلية أغرب منه،بل من أعظم الكرامات العلمية في الطريقة القادرية البودشيشية ،على يدي شيخها سيدي حمزة
إذ كيف سيتحول شخص ميئوس منه علميا وتحصيلا رسميا إلى مثقف مدمن على القراءة ومؤلف في فترة مبكرة من عمره بهذا العنف والجرأة والسيولة الفكرية المثيرة كما يقال عنه؟!. 
حتى إن فكرة كتابة السيرة الذاتية التي أخطها في هذه اللحظات كانت قد تولدت لدي وراودتني في تلك الفترة المضطربة والوقادة من سن المراهقة،بل قد شرعت فعلا في كتابة بعض عناصرها التي تكاد تشبه هذه التي أعرضها حالا، "وكأن الطريقة لا تعرف شيبا ولا شبابا ولا صغرا ولا كبرا ولا بداية ولانهاية،بل هي الثبات بعينه والحقيقة التي لا تعرف زيادة ولا نقصانا!". 

إن هذا النزوع العلمي والشرارة الفكرية التي أشعلت زنادها الطريقة بداخلي جعلت مني شخصا جريئا وحماسيا أكثر من اللازم،فقد كنت أجادل والدي من أجل إقناعه بالطريقة فيما سبقت الإشارة إليه،كما كنت ألح على كل أفراد العائلة لكي يلتزموا بها،ومن ثم كان الغالب عند الرد أن يسخروا مني وينسبوني إلى الغباء أو البله.


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق