آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب : رهان الأرواح في صحبة قطب الصلاح الشيخ سيدي حمزة القادري بودشيش -12

المحطة الثالثة
سيدي حمزة والمبادرة المؤثرة بالزيارة المثمرة


أولا : الزيارة الحاسمة للشيخ سيدي حمزة إلى تطوان العامرة


في غضون هذه الأحداث والتحركات وموازاة مع هذه التفاعلات كانت هناك مؤشرات لدى الفقراء بأن الشيخ سيزور مدينة تطوان قريبا،وذلك في أواسط السبعينات من القرن الماضي( سنة1974مـ فيما أتذكر)،والتي كانت في نظره حينذاك من أحسن المدن وأطيبها إليه وأكثرها استجابة لدعوته وتمسكا بطريقته! 
حتى إنه قد عبر لي عن شعوره بالمدينة وأهلها بقوله:"حينما أدخل مدينة تطوان أرى التصوف يسير على رجليه!!! "وذلك لما احتضنته المدينة من أولياء وأضرحة ومجاذيب لا يخفى خبرهم وحالهم على أحد. 
إضافة إلى هذا ما كان يسود علاقات المريدين من مقدمهم إلى آخرهم أو صغيرهم - حيث لا متأخر أو لا تالي في الطريقة - كما عبر بذلك الشيخ نفسه - من محبة وتعظيم له وكرم!. 
فلقد كان الأمر مع الطريقة وشيخها في هذه المرة يختلف كثيرا عما هو شائع ومزعوم عن أهل تطوان من نوع شح وانطوائية،مما سيغير النظرة كلية لكل زائر في هذه الضيافة الروحية. 
هذه أيضا من إحدى كرامات هذا الشيخ المبارك وأثره على النفوس في باب التفاني والتضحية ونكران الذات والكرم الذي سيلقبه به أولياء تطوان أنفسهم كما يحكي بعض الصالحين من ذوي الكشوفات :"أن الشيخ سيدي حمزة لما دخل تطوان ألبسه أهلها من الأولياء حلة خضراء ولقب بسيدي عبد الكريم!". 
في ظل هذا التلاحم والتوجه فقد كان كل مريد يقوم بدوره في تهيئ الظروف الملائمة لاستقبال هذا الضيف الكريم والأب الروحي الرحيم. 
هذه الأدوار قد كانت تتم في غالب الأحيان بعفوية وتلقائية وانسجام تام وبدون تخطيط مسبق،لكنها مع ذلك كانت تتسم بالانضباط والإيجابية والتناسق المتناغم،وذلك لأنها كانت مبطنة ومغلفة بعسل المحبة والرضا،وأنوار الذكر والحال التي كانت تشع من قلوب الفقراء وألسنتهم كأجمل مجمع للنحل في تواصلها بالمحبة والالتزام.!!! 

هكذا حل الشيخ إذن ومن معه من أهله ومريديه بمدينة تطوان،وبالتحديد بمنزل الفقير سيدي محمد القضَّاوي رحمه الله تعالى،وذلك كما يقال بأن المرحوم والده قد أوصاه بجعل منزله هذا في خدمة الشيخ سيدي حمزة واستضافته كلما حل بالمدينة. 
من حسن حظي أن هذا المقام للشيخ كان قريبا من منزلنا؛ وفي الحي الذي نسكنه، فلم يكن لدي إذن من دور أقوم به خدمة للطريقة سوى الاجتهاد في إقناع والدي للذهاب إلى زيارة هذا الشيخ الذي طالما تجادلت معه بشأنه... 
فبعون من الله تعالى وفضل استطعت إقناعه بالحضور ولو على سبيل الاستطلاع،وقبل التوجه إلى المنزل الذي كان يوجد فيه الشيخ قام والدي لأداء أو قضاء بعض الصلوات؛لست أدري هل كانت فرائض أم نوافل؟. 
بل المهم هو أن هذه الحركة منه كانت عنوانا وإيذانا بتعظيم مسبق لمقام الشيخ وحضرته قبل أن يمثل بين يديه!. 
فكان هذا الإجراء متناسبا مع ما يذهب إليه الفقهاء من استحباب الوضوء أو الاغتسال عند مقابلة السلطان وأيضا الصالحين، كما نجده عند ابن جزي في كتابه: القوانين الفقهية... 
لما دخلنا المنزل المذكور استقبلنا بعض الإخوان،وعلى رأسهم مقدم الطريقة سيدي أحمد بن داود الذي كان يعرف والدي قديما - كما سبق وذكرت. 
بحيث سيسعى جهده لتقديمه إلى الأطر العلمية والفقراء البارزين في الطريقة ذوي الخبرة واللياقة الأدبية والأخلاقية في استقبال الوافدين الجدد. 
فلقد كان من بينهم -فيما أتذكر-: الحاج سيدي عمر الباي والحاج سيدي محمد الزوهاري وسيدي عبد السلام الوالي وغيرهم،وأيضا فيما أظن الأستاذ والعلامة الدكتور سيدي أحمد لسان الحق الذي كان يلازم شيخنا في كل رحلة من رحلاته تقريبا،وكان حينها لسان الحق بالحال والمقال،وهو من الرجال الذين"صدقوا ما عاهدوا الله عليه" ولم يبدلوا تبديلا! 
غير أن اللقاء الذي شهد ته حضوريا وسمعته أذناي مباشرة هو ذاك الذي دار بين والدي والحاج الباي وربما الحاج الزوهاري وسيدي عبد السلام الوالي،بحيث سيجد مع هذين الأخيرين فيما بعد تفاهما وانسجاما وتشعبا في الحديث؛خاصة وأنهما كانا من العناصر(المناضلة سابقا)في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية،كما كانت للحاج الزوهاري صلة عائلية بالأستاذ المرحوم عبد الرحيم بوعبيد. 

من هنا بادر كل واحد يحكي تجاربه الحزبية ونجاحها وفشلها وزيف الكثير من أهدافها وما إلى ذلك،إضافة إلى استعراض لبعض الفلسفات الإشراقية اليونانية التي يكاد يسقطها على الصوفية من أفلاطونية وأفلوطينية محدثة وغيرها مما كان مدار الحديث حينذاك. 
هذه التفسيرات كانت تجابه بالرفض والاستبعاد من طرف هؤلاء الإخوان مع طرح البديل الذي لا يدخل في حكم التصورات الذاتية ولا الإسقاطات المنطقية،لأنها من قضايا الروح والوجدان!. 
فجأة! توارى والدي عن نظري!بحيث سيزور الشيخ في غرفته التي كان يقيم فيها،فلم أدر ما هو الحديث الذي دار بينهما؛ إلا أنه سيحضر في نفس تلك الليلة الحفل الروحي المعتاد إلى جانب الشيخ مباشرة... 
فلقد كانت ليلة مشعة ووهاجة بأنوارها،يهتز لها الميت في قبره وتحيى بها العظام وهي رميم ،وتقشعر منها الجلود ثم تلين إلى ذكر الله تعالى وتطمئن به... 

عند الثلث الأخير من الليل عدنا إلى منزلنا -أنا ووالدي- بينما الليلة استمرت في أنوارها الروحية إلى الفجر. 
هنا أقف لأذكر وأعترض على بعض المتنطعين الذين يلومون الفقراء بالمغادرة قبل صلاة الفجر واتهامهم بالتهاون في أمرها وإسقاط هذا الحكم على مجموع الفقراء؛بل حتى على الشيخ نفسه . 
فأقول: بأن هذا وهم وجهل مركب بالحقيقة التي يكون عليها الفقراء، كما أنه مصادرة للنوايا وتتبع للعورات في حق أشرف الناس و أحرصهم على محبة الله تعالى ورسوله!!! 
لأن الفقراء من جهة كانوا ساهرين في الذكر وليس في اللهو! بينما غيرهم كان نائما مع شخيره وأضغاث أحلامه! وهذا يعطي لهم امتيازا لا مثيل له. 
من جهة أخرى ليس من الضرورة الشرعية والواجب أن يجبر الجميع على السهر حتى الفجر،وفيهم المريض والضعيف والمؤرق والعامل وغير ذلك من أصحاب الأعذار الشرعية، فيكون الإلزام بالسهر هنا هو عين المخالفة الشرعية وباب للإضرار بالآخرين بغير مبرر، بينما الشرع قد أعطى الرخص والعزائم... فليختر المؤمن ما يشاء لأن "الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ". 
ثم،من أدرى هؤلاء بأنهم قد ذهبوا إلى النوم في تلك اللحظة؟ بحيث أن اعتراضهم قد أوقعهم في الكذب الصريح الذي لا تقبل معه شهادتهم. 
فهم إما أن يرافقوا المغادرين للمجلس فيقع عليهم ما يقع على غيرهم من النقد وإما أن لا يغادروه فيبقون حتى مطلع الفجر،وهو مبدأ الشيخ وسهره طوال حياته منذ أن عرفناه وعاشرناه وصحبناه عن قرب ومعاينة ،ومن ثم فلا يستطيعون الحكم على المغادرين بما آلوا إليه،إضافة إلى أن" من نام عن صلاة أو نسيها ثم ذكرها فذلك وقتها "كما ورد به الحديث الشريف . 
فلماذا إذن هذا التشدد والتحكم في نوايا وخطوات الآخر بغير علم و لا تقوى،بينما الذاكرون يبقون أحسن حالا من الغافلين البطالين روحيا وسلوكا؟!!!. 


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية