فقد تحصل أنَّ المجاهدات على ثلاثِ مراتب :
مجاهدَةُ التَّقْوَى : وهي رعايةُ الأدبِ مع اللهِ في الظاهرِ والباطنِ بالوقوفِ عند حُدوده مُراقباً أحوالَ الباطنِ، طالباً النجاةَ كَمَا مَرَّ، وإنَّهُ التصوفُ عند الصدر الأول منهم.
ومجاهدة الاستقامة : وهي تَقويمُ النَّفسِ وحَملِهَا على الصِّراطِ المُستقيم حتَّى تَصير لَهَا آدابُ القرآنِ والنُّبُوءَةِ، بالرياضة والتَّهذيب، خُلُقاً جِبِلِيَّةً، طالباً مراتبَ {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}.
ومُجاهدة الكشفِ والاطِّلاعِ : وهي إخمادُ القُوى البشريَّة كلِّها حتى الأفكارَ، متوجِّهاً بكُلِّيَّةٍ تَعَقُّلِهِ إلى مُطالعة الحَضْرَة الربانيَّة، طالبا رَفْعَ الحجابِ، ومشاهدةُ أنوار الربوبيَّة في حياتِهِ الدنيا، ليكون ذلك وسيلةً إلى الفوزِ بالنَّظَرِ إلى وجه الله في حياتِه الأُخرى التي هي غايةُ مراتب السُّعَداء.
فهذهِ ثَلاثُ مُجاهداتٍ يُطْلَقُ اسمُ التَّصوفِ على مجموعِهَا، وعلى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، لكن غَلَبَ استعمالُهُ في الأُخرتين دون الأولى وَغَلَبَ في الأُولى اسمُ الوَرَعِ، وصارَ علمُ المجاهدةِ الأولى هو فقهُ الوَرَع وفِقْهُ القُلوب، والعلم الذي الذي يُسَمَّى علمُ التصوف هو العلمُ بأحكام المجاهدتَين الأُخرتَيْن وآدابُهُمَا وكيفيَّةُ سبيلهما، وما يطرأُ على السَّالِكِ من العِلَلِ وما يُفْسِدُ سُلُوكَهُ، أو يُشَيِّعُهُ نَحْوَ غَايَتِهِ، وشرحُ ألفاظهِمْ التي اصْطَلَحُوا عليها في مُفاوَضَتِهِم.
وقد حَاولَ كثيرٌ من القومِ العبارةَ عن معنى التصوف بلفظٍ جامعٍ يُعطي شرحَ معناهُ فلم يَفِ بذلك قولٌ من أقوالهم.
فمنهم من عبَّر بأحوال البِدايةِ، قال الجريري : "التَّصَوُّفُ الدُّخُوُلُ فِي كُلِّ خُلُقٍ سَنِيٍّ، وَالخُرُوجُ مِنْ كُلِّ خُلُقٍ دَنِيٍّ"، وقال القصّاب : "هُوَ أَخْلَاقٌ كَرِيمَةٌ ظَهَرَتْ فِي زَمَنٍ كَرِيمٍ مِنْ رَجُلٍ كَرِيمٍ".
ومنهم من عبَّرَ بأحوال النِّهاية، قال الجُنَيد : "هُوَ أنْ يُمِيتَكَ الحَق عنكَ ويُحييكَ بِهِ"، وقال رُوَيْم : "هُوَ البَقَاُء مَعَ اللهِ عَلَى مَا يُريدُ، لا تَمْلِكُ شيئاً ولا يَمْلِكُكَ شيءٌ". وقال سَمنُونُ : "هُوَ أن تكونَ مَعَ اللهِ بِلَا عَلاقة".
ومنهم من عبَّر بعلامته، قال البغداديُّ : "علامة الصُّوفي الصَّادِقِ أن يَفْتَقِرَ بَعْدَ الغِنَى، ويُذِلَّ بَعدَ العِزِّ، ويَخْفَى بَعْدَ الشُّهْرَةِ ، وعلامةُ الكاذِبِ على العَكْسِ".
ومنهُمْ من عبَّر بأصولِهِ ومبانيه، قال رُوَيْم : "التَّصَوُّفُ مَبْنِي عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ : التَّمَسُّكُ بِالفَقْرِ وَالافْتِقَارِ، والتَّحَقُّقُ بالبذل والإيثار، وتَرْكِ التَّعَرُّضِ والاخْتِيَارِ".
وَمِنْهُمْ مَنْ جعلَ ذلكَ الأصلَ والمَبْنَى واحداً، قال الكتاني : "التَّصَوُّفُ خُلُقٌ، فَمَنْ زَادَ فِي الخُلُقِ، زَادَ فِي التَّصَوُّف".
وأمثالُ هذه العباراتِ كثيرٌ، وكلُّ واحدٍ منهُمْ يُعَبِّرُ عَمَّا وَجَدَ، وينطقُ بِحسَبِ مَقَامِهِ، والحق أن التصوُّفَ لا ينطبقُ عليه حدٌّ واحد، وأنَّهُ التَّخلُّقُ بمجاهدةِ الاستقامة مقتصراً عليها، أو بمُجاهدة الكَشْفِ، ومن شُروطِهَا مُجاهدةُ الاستقامَةِ فَيَتَخَلَّقُ بِهِمَا مَعاً، واختلفَ محصولُهُمَا باختلافِ الباعِثِ، إذِ الباعثُ في الاستقامةِ طلبُ السَّعادةِ بعدَ الموتِ من غَيْرِ تعَرُّضٍ لِكَشْفِ الحجابِ في حياتِهِ الدُّنْيَا، وباعثُ الأُخْرَى هُوَ كشفُ الحجابِ في حياتهِ الدنيا فاختَلَفَ وعَسُرَ اندِرَاجُهَا في حَدٍّ واحِدٍ، وقد رَسَمْنَا كل واحدة منهما برَسْمِهَا، والكل تَصَوُّفٌ.
ومن أراد الاطّلاعَ على تَفاصيل هذا كُلِّهِ، والإحاطةِ بجميعِ حقائقه، فعليه بكتُبِ القَوِمِ، وإنما أشَرنا نحن على الجُمْلَةِ إلى ما تَتَمَيَّزُ به الطَّريقَةُ عن غيرها، {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّه}.