آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب : رهان الأرواح في صحبة قطب الصلاح الشيخ سيدي حمزة القادري بودشيش -20

ثالثا : المقامات ومقتضى الواقع في التربية


عند الحديث عن الكرامات يتسلسل مبدأ المقامات عند الصوفية،بحيث قد يعتبر الشيخ سيدي حمزة أن أعلى المقامات عند أهل الله تعالى هو مقام الرضا،لأنه يمثل الثمرة العليا للمحبة التي هي محور السلوك عند الصوفية،ومدار حديثهم ومثار مواجيدهم! 
إذ من مظاهر الرضا أن يلتزم المريد مكانته ومقامه الذي أقامه الله فيه،كما يقول ابن عطاء الله السكندري في بعض حكمه:"ما ترك من الجهل شيئا من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الله فيه :"وإرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية". 

في هذا المعنى يحكي لنا شيخنا سيدي حمزة أن أحد المريدين كان يزاول وظيفة رسمية في العمل الدنيوي،وكان من كرامته أنه كثيرا ما يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم مناما،فاشتاقت نفسه إلى المزيد من هذه الكرامة وأمثالها،ظانا منه أنه لو تخلى عن عمله الرسمي وتفرغ للعبادة فسيكون حاله أكثر نشاطا وقربا ورؤاه أقوى تواردا واسترسالا،إلى غير ذلك مما يدخل في إطار الحظوظ المعنوية التي تشوب توجه بعض السالكين طريقهم إلى الله تعالى. 
فما كان من هذا المريد إلا أن قدم استقالته من مهنته ثم تفرغ للعبادة والذكر والخلوة من غير استئذان شيخه،الشيء الذي ترتب عنه أن أصبح مسلوبا لا يرى رؤيا ولا ترد عليه واردات كما كان حاله من قبل! 
فلما ضاق به الأمر لجأ إلى شيخه يشتكي إليه هذا التغير في مقامه،فكان أن أشار عليه بالعودة إلى عمله الظاهري الذي كان عليه ولا يتخطاه بهواه وأمانيه،ومن ثم فقد يعود إلى مقامه الباطني الذي هو فضل من الله تعالى ورحمة منه يختص بها من يشاء من عباده. 
هذه القصة من شيخنا فيها دلالة قوية على عدم رهن المنهج الصوفي بالإجراءات الماضية التراثية أو التحكمات الذاتية والنظرية،وكذلك فيه إشارة إلى عدم التوقف مع الرؤى واعتبارها المحدد الرئيسي للمسار الروحي و مستواه الإيجابي أو السلبي!. 

فربما قد تكون الرؤيا ابتلاء وامتحانا من الله تعالى،وأيضا محددة لمدى اعتراف المريد بفضل شيخه عليه من الناحية التربوية والروحية. 
من هنا فقد يأتيه من يلقنه في المنام أذكارا وتوجيهات خاصة وعامة،وعندها توضع صحبته لشيخه على المحك،فهو إما أن يتبع تلك التلقينات ذاتيا فيقطع حبله بشيخه وإما أن يراجعه فيكون جوابه بين إجازتها أو رفضها،وهذا أسلم له في الطريق على كل حال. 
ربطا بالبعد التوحيدي لمنهج الشيخ سيدي حمزة فقد سمعته بخصوص الكرامات في الطريقة يقول محذرا ومنبها ما لفظه أو معناه:"لو أن أيا كان مهما علا مقامه عند الله تعالى قد اعترض سبيلك فلا تقف عنده،فالطريق أمامك!". 
مشيرا هنا بأصبعه إلى مقام التوحيد،أي أن الغاية في الطريق هي معرفة الله تعالى الذي هو عين ما جاء من أجله رسول لله صلى الله عليه وسلم لإسعاد الكائنات وكل الأنام. 
و هذا ما يؤكده جل الصوفية في السلوك إلى الله تعالى كما يقول ابن عطاء الله السكندري:"ما أرادت همة سالك أن تقف عندما كشف لها إلا ونادته هواتف الحقيقة الذي تطلب أمامك ولا تبرجت ظواهر المكونات إلا ونادتك حقائقها إنما نحن فتنة فلا تكفر". 
في حين قد يرى حسب المصطلح العرفاني الصوفي أن السالك طريق الله تعالى قد يصل إلى الفناء في المقام المحمدي الذي من بابه ينتقل إلى الفناء في الأحدية التي لا يرى فيها سوى الله تعالى،بحيث حسب ما فهمناه من تفسيره قد يغيب عن كل شيء وعن كل مقام أو قد يفنى عن الفناء كما يعبر الصوفي: 

وفي فنائي فنا فنائي      وفي فنائي وجدت أنت 
فيفنى ثم يفنى ثم يفنى    حتى يصير عين البقاء 

وهو ما يعبر عنه أيضا عند الصوفية بالفناء في الذات والصفات والأفعال،كما يعرفه السهروردي في "عوارف المعارف" الباب الحادي والستين بقوله:"وهو ينقسم إلى فناء ظاهر وفناء باطن،فأما الفناء الظاهر:فهو أن يتجلى الحق سبحانه وتعالى بطريق الأفعال و يسلب عن العبد اختياره وإرادته فلا يرى نفسه ولا لغيره فعلا إلا بالحق،ثم يأخذ في المعاملة مع الله تعالى بحسبه،حتى سمعت أن بعض من أقيم في هذا المقام من الفناء كان يبقى أياما لا يتناول الطعام والشراب حتى يتجرد له فعل الحق فيه ويقبض الله تعالى له من يطعمه ويسقيه كيف شاء وأحب،وهذا لعمري فناء لأنه فني عن نفسه وعن الغير نظرا إلى فعل الله تعالى بفناء فعل غير الله. 

والفناء الباطن : أن يكاشف تارة بالصفات وتارة بمشاهدة آثار عظمة الذات،فيستولي على باطنه أمر الحق حتى لا يبقى له هاجس ولا وسواس،وليس من ضرورة الفناء أن يغيب عن إحساسه،وقد يتفق غيبة الإحساس لبعض الأشخاص،وليس ذلك من ضرورة الفناء على الإطلاق." 
هذا التفسير لمفهوم الفناء أقرب إلى حالة وتعبير السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وذلك حينما قالت لها أمها بعدما برأها الله تعالى من الإفك كما جاء في كتاب الشهادات من صحيح البخاري:"قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقلت لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله". 

فلقد رأى بعض الصوفية ومن بينهم أبو حامد الغزالي ،وهذا أجمل تفسير لهذا الموقف ولا يدركه إلا أهل الأذواق والأشواق،أن السيدة عائشة رضي الله عنها قد كانت في حالة وحدة الشهود وفي مستوى الفناء المذكور،كما أضيف رأيا مدعما له وهو أنها قد كانت في حالة اتصال بالحضرة الإلهية لأن الوحي قد نزل بخصوصها وبتبرئتها مباشرة منه إليها ،فلم تكن حينئذا ترى إلا هو،ومن هنا قالت ما قالت فرحة بربها ثم عادت بعده إلى حضرة نبيها في المقام المحمدي الذي بواسطته نالت هذا الفضل العظيم والتخصيص الكريم. 
إضافة إلى هذا فقد كانت السيدة عائشة الطاهرة مهيأة روحيا إلى نيل هذا الفضل من خلال الموقف الباطني لها في تعظيمها لحضرة الله سبحانه وتعالى والمعبر عن تمام التواضع له والافتقار إليه ،قد عبرت عنه بصورة بليغة وبوعيها بالحضرة المحمدية التي تصلها بالحضرة الإلهية وتلقي المعارف وساطة حيث قالت رضي الله عنها:"والله ما ظننت أن ينزل في شأني وحيا ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله". 

هذا الفناء الذي قد يعبر عنه بمقام الأحدية كان يرى شيخنا سيدي حمزة أنه لا ينبغي أن يبقى السالك واقفا عنده وإلا فقد لا يستقيم حاله حينما تطول به هذه الغيبوبة،ومن ثم يكون لزاما عليه بالعودة إلى مقام المحمدية الذي يعطي توازنا ظاهريا وباطنيا ويضمن له الحفاظ على ثمرة السلوك بالحلة المحمدية الجامعة بين الحقيقة والشريعة. 
كما أن من حكمة توجيه الشيخ هاته وتحذيره من عدم التوقف عند كل هاجس أو خيال أو مشاهدة وغيرها في السلوك سد الباب في وجه كل من تسول له نفسه الدجل بزعم رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو توهم التواصل مع الملائكة وغيرهم، وفي التالي اللعب بمشاعر الناس ومصائرهم بهذا الأسلوب الذي قد أصبح ورقة رخيصة لدى بعض المضللين والمستغلين بها مقام الرسالة الكريم وبعض خصائص العالم الغيبي المنصوص عليها لتحقيق أهداف دنية وأوهام ذاتية لا علاقة لها بالحقيقة واقعا وفكرا وشرعا! 
كما أنه ليس كل من هب ودب يمكنه أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام أو اليقظة،وإلا فقد يسترخص مقام النبوة ويصبح ألعوبة في يد المغرضين والدجالين. 
في حين وهذا بيت القصيد قد نسأل هؤلاء الذين يصدقون ويتصرفون ويقررون باسم رؤى يزعمها غيرهم: 
من يثبث لكم بأن صاحب تلك الرؤيا قد كان صادقا في دعواه،مع أنه كانت بينه وبين نفسه في منامه ولا شاهد عليها في الظاهر والواقع والسلوك؟!!! 

إن الصوفي في منهج شيخنا هو ابن وقته،ولا ينزل إلا حيث أنزله الله تعالى،كما أن الزهد عنده ليس معناه لبس المرقعات وترك الدنيا وأهلها للهلاك والاستهلاك أو الاختلاء في الجبال والفلوات،وإنما التصوف هو مجابهة الحياة بكل واقعية وثبات وممارسة كل الأعمال الظاهرة والمشروعة على قدم وساق مع أهل الدنيا. 

في المقابل فقد يتطلب السهر بأقصى جهد واجتهاد على تصفية القلب من الشواغل والكدورات والعوارض والأمراض حتى يكون إيجابيا في ظاهره وباطنه. 
هذا هو التصوف المتكامل الذي يمثله من يسمى عند الصوفية والعلماء العاملين بالوارث المحمدي،لجمعه بين جمال الظاهر وجلال الباطن.


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية