آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب : رهان الأرواح في صحبة قطب الصلاح الشيخ سيدي حمزة القادري بودشيش -19

ثانيا : كرامة الاستقامة من محصلات الصحبة


من المعلوم تاريخيا أن الصوفية هم فرسان الكرامات والكشوف وما إلى ذلك مما قد يعتبر من خوارق العادات،وذلك لأنهم يدخلون في حكم الأولياء بصفة رسمية كما يصنفهم غالبية العلماء الموضوعيين من فقهاء ومتكلمين... 
فحينما نبحث في كتب الطبقات تعترضنا شتى الحكايات والقصص التي تؤرخ للشيوخ في هذا المجال،منها ما هو مقبول عقلا وذوقا ومنها ما هو مبالغة محضة وربما وضع واختلاق من بعض المغرضين أو المؤرخين أنفسهم. 
فقد نجد تدوينا لمسائل غريبة كالطي والوجد الشبحي لشخص بعينه في مكانين وفي زمن واحد،وأيضا فك القيود في السجون والنجاة من قبضة العدو رغم سطوته الظاهرية والحتمية،وكذلك وفرة الطعام وربما الذهب والمال،أو الكشف عن قضايا قد تدخل في حكم المغيبات،إضافة إلى التواصل عن بعد والتلقين الروحي بالاستحضار الذهني... 
فجل هذه القضايا تبدو مقبولة من حيث المبدأ وبشكل ضيق واستثنائي حتى لا تصبح مجالا للدجل وعدم الانضباط رصدا وتقنينا! بحيث قد نجد لها أصولا ومستندا شرعيا بوجه ما،إما بظاهر النص أو التأويل،كما للعقل فيها حكم قد يفيد الجواز أو الإمكان الذهني. 
بل إن العصر الحديث بتقنياته المتطورة ووسائل تواصله قد يدعم إمكانية الكثير من هذه الظواهر وذلك لما توصل إليه العلم من اكتشافات في الباب التواصلي والتحويلي والتداخل العنصري... 
لكن الكرامة عند الصوفية لا تعتبر الغاية الرئيسية في حد ذاتها وإنما هي وسيلة استئناس قد يتقوى بها المريد في طريقه إلى الله تعالى كمحطة للاستراحة والاستجمام الروحي وتقوية الهمم والعزائم للمضي في السفر الطويل. 

من هنا فقد كان التلازم قائما بين الاستقامة والكرامة في الخطاب الصوفي كقول بعضهم:"الاستقامة خير من ألف كرامة"و"كن طالب الاستقامة لا طالب الكرامة"يجمع بين الموضوعين أبو القاسم القشيري بقوله:"واعلم أن الاستقامة توجب إدامة الكرامة. قال الله تعالى:"وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا"،لم يقل سقيناهم بل قال"أسقيناهم"يقال:أسقيته،إذا جعلت له سقيا،فهو يشير إلى الدوام". 
فالشيخ سيدي حمزة،من هذا المبدأ،يعتبر أن أعظم الكرامات هي استقامة المريد على الخلق المحمدي:وذلك من خلال تغير أحواله وتصفية قلبه. 
لهذا فهو لا يدعي،كما سبق وأشرنا، خرق العوائد ولا الطيران الذاتي في الهواء ولا المشي على سطح الماء وإنما توجيهه للمريد يكون دائما هادفا ومركزا ألا وهو إرادة وجه الله تعالى ابتداء وانتهاء مع طلب الثبات والتطلع إليه. 
فقد يحكي لنا نوعا من الكرامات عن بعض الشيوخ،وربما كنى عن نفسه في بعض الأحيان من باب التحفيز على العمل وطلب الاستقامة،بل إن المتتبع للمراحل الروحية للطريقة مع الزمن قد يلاحظ بالذوق والشعور أنها قد عرفت تغييرات ملموسة في مستوى بروز مثل هذه الكرامات،وهو ما يشعر به كثير من الفقراء وذلك منذ تولية الشيخ سيدي حمزة مسؤولية التربية في الطريقة،مما قد يعتبر مؤشرا على أنه فعلا شيخ مجدد بكل ما تحمله الكلمة من معنى في المجال الروحي. 
إذ أن المرحلة الأولى قد عرفت ظهورا قويا للكرامات والأحوال وحدوث ظواهر غريبة ومتشابهة لدى الفقراء وصلت إلى حد التواتر،وهي تعبر عن وحدة الشعور والمدد في الطريقة. 
منها ما يدخل في باب المكاشفات والرؤى والمشاهدات،ومنها ما يدخل في باب الحماية والحفظ والوقاية من الآفات،ومنها الروائح الطيبة التي تشبه إلى حد ما روائح العود أو عتق منه،وخاصة عند الاقتراب من البلدة التي يوجد فيها الشيخ أو حينما نأخذ الطريق لزيارته. 
بحيث قد كان شمها يتم على مستوى التواتر بين الفقراء فرادى أو مجتمعين،رغم التشكيك الذي كان يثيره البعض حولها ولكن من غير جدوى!... 
وحول هذه المسألة أذكر حادثة طريفة ومضحكة وقعت لي بخصوص استجلاب رائحة العود عند الذكر ،وذلك أنني كنت ذات يوم عند مقتبل عمري وانتمائي إلى الطريقة جالسا في خلوتي المذكورة بمنزلنا وأنا منهمك في الذكر إذا بي أشعر وكأن رائحة رقيقة تدغدغ أنفي بشكل متقطع ،فكنت كلما هبت علي ازددت نشاطا وحيوية في باب الذكر .لكن وبعد هنيهة داخلني شك في مصدر هذه الرائحة فذهبت لأفتش في بعض ملابسي كانت مطوية بخزانة صغيرة و مهترئة ورائي فإذا بي أعثر على بقايا من صابونة (لوكس) قد أثرت فيها رطوبة الجو والإهمال فبدأت تفوح بروائحها نحو الخارج فلم تجد سوى أنفي التعس والضعيف الذي لا يستطيع التمييز بين روائح العود والروح وروائح الصابون البارد والشارد. 
أذكر حينها أنني سخرت من نفسي وضحكت عليها ،وما زلت كذلك كلما تذكرت الموضوع أو حكيته لأصحابي وإخواني من الذاكرين،بل هي التي ضحكت علي حينما تركت لها المجال بأن تجرني نحو التعلق بما هو ليس من مطلب الروح والغاية الأساسية من التصوف ألا وهو الاستقامة خير من ألف كرامة. 
فكانت هذه الظواهر الروحية المادية بمثابة وسائل مثبتة وداعمة،وكذلك تأسيسية بالنسبة إلى خلص المريدين في الطريقة لكي يحملوا على عاتقهم مسؤولية تبليغ الدعوة بحماس وطمأنينة وتصديق عميق. 
لكن هذه المظاهر الروحانية المتحركة تبدو وكأنها قد تقلصت لدى كثير من الفقراء بشكل ملحوظ وبحسب المراحل التي تمر بها الطريقة في عصرها،وذلك لما تتميز به من منحى تجديدي سواء على مستوى الأحوال أو الأقوال أو الأفعال. 
من هنا فستكون الكرامة الأكثر بروزا وثباتا في الطريقة هي ما تفرس به الشيخ سيدي الحاج العباس رحمه؛والد شيخنا،حينما قال بأن الطريقة سيظهر فيها عناصر ثلاثة بارزة هي:"السر والعلم والصلاح". 
فقد كان يكرر هذه العبارة الشيخ سيدي حمزة باعتبارها أهم مظاهر الكرامة في الطريقة القادرية البودشيشية. 
فالعلم والصلاح مرتبطان بالسر الذي يحمله هذا الشيخ المبارك من حيث علو همته وإذنه وتحققه في باب معرفة الله تعالى، على اعتبار مستوى الإخلاص الذي تحصل عليه في طريقه إليه تعالى. 
من ثم فإن كرامة الكرامات في الطريقة سريان سر الشيخ في المريد على سبيل كيمياء روحية تغير أقوالهم وأحوالهم حتى يصيروا جواهر لامعة تجذب إليها الأنظار وتأسر القلوب والأسماع على سبيل الإعجاب والاستحباب وتلمس الخير والصواب.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية