آخر الأخبار

جاري التحميل ...

شرح حكم الشيخ الأكبر : الحقيقة لا ينطق بها لسان، بل هي ذوق ووجدان.

 الحقيقة لكونها لا حدّ لها ولا جهة، وإنها في العدم، أي : طريقها عدم وفناء لا ينطق بها لسان فلا تدخل تحت حيطة العبارة؛ لأن اللسان لا دخل له إلا في الألفاظ، والألفاظ إنما وضعت بإزاء المعاني المعقولة فما لم يعقل لم يكن مدلولها؛ لأن دلالة الألفاظ على المعاني إنما تكون بعد تعبيرها بالألفاظ مسبوقاً بتعقلها وهي وراء طور العقل فلا تصل إليها القوة العاقلة، فامتنع أن يتعلق بها شيء من القوّى الجسمانية المُدركة بالحفظ والإحساس والتخيل والمحاكاة، مع أنه لا تتعلق هذه الأمور إلا بما هو مقيَّد، والحقيقة مطلقة كما عرفت، فالدخول فيها لا يكون اختيارياً، بل اضطراري ولا منوطاً سعي السالك، بل بنفي سلطان الوهم والعقل، وظهور سلطان الحب والعشق، بل كل من عرف الحق بطريق العلم لا يخرج عن حجب الصفات إلى معاينة الذات، ولم يرتق عن الحضرة الواحدية إلى عرصة الأحدية، فالحقيقة لا تُدرك إلا بالذوق والوجدان بأن عزل عقله بنور الحق، وجن بالجنون الإلهي كما قيل : العشق جنون إلهي، فصحَّ معلومه عن غمام كثرة الصفات، وصفا عن كدورة الاعتبارات بحيث ارتفعت التكثرات العقلية بالمحبة الذاتية، ويبلغ السالك إلى ما بلغه الواصلون من نفي الصفات عن الذات الذي هو كمال الإخلاص على ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه مِن أنَّ كمال الإخلاص في نفي الصفات عنه .. إلى آخره.

فحقًّا يصير علمه عيناً وعينه حقًّا، ويصير موحِّداً توحيداً شهودياً، وعياناً لا علماً وبياناً، لكن ينبغي أن يعلم أن العقل الذي لا يُدرك به الحقيقة وتكون هي وراءه ليس المراد به العقل المطلق؛ لأن العقل المطلق المنور بنور الإطلاق الذاتي بالقوة الأصلية الإحاطية يدرك المعنى الكلي والحقيقة الكلية، وما يدركهما يطلق عليه العقل لصدق حدّ العقل عليه، فالعقل لا يُدرك به الحقيقة إذا لم يكن معه نور الإيمان، ويدرك به الحقيقة إذا كان معه نور الإيمان، وهذا مثل قولهم : (أن الله لا يدرك بالعقل، وهو لا يدرك إلا بالعقل)، فكل منهما باعتبار، فلا منافاة بينهما، والمنافاة إنما هي من وحدة الاعتبار، وستعرف إن شاء الله تعالى توضيح الحقيقة، فلا تعجل إن الله مع الصابرين، فلا يدخل في الحقيقة الداخل في حُكم الوهم والعقل، بل لا يدخل فيها إلا بغلبة سلطان العشق على سلطان العقل بحيث لا يبقى للعقل حُكم أصلاً، وانطمس نوره بنور العشق كانطماس نور القمر بنور الشمس، فانهتك ستر العقل بقوة العشق والحب، فيكون حاله كحال المجانين فيصير ذا حقيقة، ويكون في مقام السُّكر والسكر يتفاوت، فمنهم من يشرب شراب الحب أضعاف ما يشربه غيره ولم يَسْكَر لكمال استعداده، ومنهم مَن يَسْكر بأدنى شرب، ومنهم من لا يسكر إلا بالكثير، ولا يلزم من السكر حصول الحقيقة بتمامها، كما قال أبو يزيد البسطامي قُدِّسَ سرُّه :
شَرِبْتُ الحُبَّ كأساً بَعدَ كَأسٍ     فَمَا نَفَذَ الشَّرَابُ وَمَا رُوِيتُ

فهو قُدِّس سرُّه من الطائفة الأولى، فلما كانت الحقيقة بهذه المثابة فلا يكون الوصول إليها إلا بالله، أو بمن يكون هو الله، (ويترجم عنه حاله دون قاله) كما أشار إليه الشيخ قبل هذا، فبيَّن من يصلح لهذا تنبيهاً للسالك الطالب الوصول.

**   **   **
الهوامش

1 - قال سيدي محمد وفا رضي الله عنه : الذوق هو إدراك في القلب، يميز به بين أشخاص أصناف المعاني، هذا إذا صحَّ من علَّة داء الشرك الخفي، وحقيقته: وجدان حلاوة من التمني في رياض تروض الرضا، وغايته: الاستغناء في تصور معاني الحقائق عن نصب الأدلة والبراهين السمعية والعقلية.

2 - قال القاشاني :الوجد هو ما يصادف القلب من الأحوال المعينة. أي: الأحوال التي تأخذه عن شهوده نفسه، ومن شهو الحاضرين، وما يلاقيه من الكون، ويفاجأ القلب بالوصف المذكور، وهو وجد صحيح، وعلامة صحته أنه فائدة ومزيد علم ذوقي، وإلا فالغيبة فيه توأم القلب باستيلاء أبخرة طبيعية.


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية