آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

البعد التوحيدي للذكر في الإسلام (الوسيلة والغاية) (8)

ثانيا: الأسوة الموصوفة بشرط التوحيد 


وهذه الأسوة تجمع اشتراكا لفظيا ومعنويا بين المقتدي والمقتدى به فمن جهة المقتدى به فإنه كما سبق وقلنا شرطها الإضافة إلى المضاف إليه.
إذ قيمة القدوة لا تعتبر إلا بحسب نوعية هذه الإضافة. وبما أن الإضافة هنا هي أشرف الإضافات وهي «رسول الله» فإن الأسوة المترتبة عنها لايمكن أن توصف إلا بالأسوة الحسنة لأن مصدرها إلهي، وإذ هي كذلك فشرف العلم بشرف المعلوم، وشرف المضاف بشرف المضاف إليه.

أما من جهة المقتدي فاستحقاقه لهذا الوصف هو مكسب له مشروط بشروط إذا توفرت كلها كانت الأسوة الحسنة. وإذا لم تتوفر افتقدت هذا الوصف بل ربما انقلبت ضدا على غايتها وبعدها التوحيدي الشامل. وذلك إما بالتناقض مع روح الجماعة وعدم التناسق مع محيطها، وإما بالغياب الروحي والتشخيصي عن القدوة الحسنة والمتمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك لعدم التناسب بين باطن المقتدي والمقتدى به وبسبب تغييب أو بتر الشروط الضامنة لهذه المناسبة والتوافق الروحي.

بعد هذا التحديد والتأكيد على إمكانية تحقيق الأسوة الحسنة المنبعثة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. يبين لنا الله تعالى شروط تحقيقها. وقد جاءت بعد جواب الشرط لغاية توحيدية محضة يمكن استنتاجها من الآية. إذ إثبات الرسالة والنبوة كان بالإضافة إلى الله تعالى وإدراك معنى الرسول وحقيقة النبوة لايتم إلا بالله تعالى. وهذا الإدراك ينبغي أن يتأسس على الجانب العقدي والعلمي التعبدي. وهو المتضمن في قول الله تعالى : « لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا».

وهذا الشرط في الآية لتحقيق الأسوة الحسنة يتضمن ثلاثة أنواع من الطلبات : طلب لذاته بذاته - أي يرجو اللـه - وطلب لذاته بواسطته : - أي اليوم الآخر- وطلب لذاته بإسمه - أي ذكر الله كثيرا- فالنتيجة هي أن المطلوب بداية وغاية واحد وهو الله تعالى : « يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه».

فاليوم الآخر لايرجا لذاته وإنما للقاء الله تعالى والسعادة بقربه، فيبقى أن الأسوة الموصوفة بالإضافة لا تتحقق إلا بتركيز الطلب والمحدد في طلب واحد هو الله تعالى وهذا الطلب لايتم إلا على الأوجه المشروطة في الآية وتتضمن التركيز على العقيدة الثابتة والراسخة في القلب. وعلى العمل المتواصل الضامن لهذا الترسيخ عن طريق تكرار ذكر الله تعالى بصورة مكثفة ومتواصلة لا يحصرها زمان ولا مكان.

وقد أخر هذا الشرط في الآية كبيان على أن الأسوة الحسنة لايمكن أن تتحقق إلا به أي بالذكر وبالوصف الذي وصفه الله به وهو « ذكر الله كثيرا» لأنه من جهة يتضمن تصريحا بالعقيدة ومن جهة هو عبادة عملية روحية متواصلة تضمن الاطراد في القرب والعروج الروحي إلى حضرة الله سبحانه وتعالى كما أنه لايمكن أن يتم الاكثار من الذكر إلا إذا كان يوجد إيمان وتصديق بالمذكور. وهو مايتضمنه منطوق الآية. فكان الايمان محركا للذكر والذكر مرسخا للعقيدة والإيمان ومحققا للأسوة الحسنة.
ومعلوم أن العقود لا تعتبر صحيحة أو كاملة إلا بالشرط الأخير. ولهذا فكان الذكر في هذه الآية يمثل شرط الشروط لتحقيق الأسوة الحسنة.

وهذه الشروط التوحيدية الواردة في الآية لضمان تحقيق الأسوة الحسنة فيها دليل واضح على أن التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم هو تأسي روحي بالدرجة الأولى قبل أن يكون تأسيا ظاهريا عمليا ذا طابع مادي ملموس لأنه لو كان التأسي بالظاهر هو المطلب الأول والرئيسي لما أمكن تحقيقه على صورته الكاملة والموصوفة بالحسنة. إذ الظاهر قد يغيب عن الظاهر وعند هذا الغياب يفتقد المقتدي صورة المقتدى به مما يجعله يبتعد عن مطابقة أفعاله وأقواله وأحواله. وبالتالي قد يختلف عنه في سلوكه حتى ولو كان معاصرا ومصاحبا له بالقرب المكاني والزماني والملازمة. 
إذن فكيف سيتم الاقتداء عند هذه الحالة برسول الله صلى الله عليه وسلم مع وجود بعد زماني ومكاني بل غياب ذاتي عن الوجود المرئي والعالم الدنيوي؟ 
تبقى الوسيلة الروحية هي الأداة الوحيدة لتحقيق هذا التأسي وهي التي تضمنتها الآية وهو ذكر الله تعالى المرسخ للعقيدة والمحقق للائتساء الموصوف برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا العمل الروحي هو الذي يضمن انعكاس روحانية رسول الله صلى الله عليه وسلم على أتباعه تسلسلا واستمرارا إلى يومنا هذا. وذلك لتحقيق كمال الائتساء ظاهريا وباطنيا. إذ الذي يوافق ويناسب باطن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجال الذكر يكون بذلك متأسـيا روحيا به لأنه صلى الله عليه وسلم : «كان يذكر الله في كل أحاينه». كما ورد في الصحيح: فالمناسبة في صفة الذكر بين الذاكرين ورسول الله صلى الله عليه وسلم. هي مناسبة الروح للروح. وهذا يقتضي أولا الائتساء بالباطن مما يترتب عليه سلوك الظاهر.

وإذا تحققت الأسوة الروحية وهي أسوة الخواص من عباد الله الصالحين أمكن تحقيق الأسوة الظاهرة تبعا عن طريق العلماء العارفين بالله، الذين هم في الحقيقة ورثة الأنبياء. وذلك لتقريب حقيقة مفهوم الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن خلال هذا الاستنتاج الذي أعطته لنا الآية الكريمة فإن أية دعوى الائتساء برسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخضع لهذه الشروط المذكورة في الآية هي مجرد توهم وشعار، كما أنه لا سلفية ولا أصولية إلا بتحقيق التأسي الكامل ظاهرا وباطنا برسول الله صلى الله عليه وسلم. وحيث أن الباطن مـازال حـاضرا بحضــور الذكر لأنه روحي يخترق الأكوان والأزمان فإن الظاهر هو المفقود فينبغي البحث عنه لكي يصلنا برسول الله صلى الله عليه وسلم الوصلة الكاملة ومن ثم تتحقق الأسوة الحسنة الموصوفة كما في الآية وبذلك سميت أمة الإسلام بأمة التوحيد وتم لها الفتح ظاهرا وباطنا قد نجد بعض صوره مرتبطة بالوصلة المتسلسلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كشرط من خلال الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي زمان يغزو فئام من الناس فيقال فيكم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال نعم، فيفتح. ثم يأتي زمان فيقال فيكم من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال نعم، فيفتح. ثم يأتي زمان فيقال فيكم من صحب صاحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال نعم، فيفتح» رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق