آخر الأخبار

جاري التحميل ...

البعد التوحيدي للذكر في الإسلام (الوسيلة والغاية) (12)


ثانيا: الوجد والحال في حقل النشيد والسماع:


وقد يندرج في مجال الحال والوجد كجالب أو مهيء موضوع السماع، وهو تناغم الخطاب لإيصاله إلى السمع على صورة جمالية وذوقية فنية وروحية، وقد يكون قرآنا يتلى أو قصائد ومنظومات شعرية ونثرية لها ابعاد روحية ومعاني توحيدية وخاصة في باب السماع الصوفي، وفيه يقول أبو القاسم القشيري مفسرا قول الله تعالى: «فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه» :"اللام في قوله" القول" تقتضي التعميم والاستغراق والدليل عليه أنه مدحهم بإتباع الأحسن. وقال تعالى: "«فهم في روضة يحبرون». جاء في التفسير أنه السماع.

واعلم أن سماع الأشعار بالألحان الطيبة والنغم المستلذة إذا لم يعتقد المستمع محظورا ولم يسمع على مذموم في الشرع ولم يَنْجَر في زمام هواه، ولم ينخرط في ذلك لهوه مباح في الجملة.
ولا خلاف أن الأشعار أنشدت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه سمعها ولم ينكر عليهم في إنشادها. فإذا جاز استماعها بغير الألحان الطيبة، فلا يتغير الحكم بأن يسمع بالألحان، هذا ظاهر من الأمر، ثم يوجب للمستمع توفر الرغبة على الطاعات وتذكر ما أعد الله تعالى لعباده المتقين من الدرجات ويحمله على متحرز من الزلات ويؤدي إلى قلبه في الحال صفاء الواردات مستحب في الدين ومختار في الشرع، وقد جرى على لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو قريب من الشعر وإن لم يقصد أن يكون شعرا.

أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار قال: حدثنا الحرث بن ابي أسامة قال حدثنا ابو النضر قال: حدثنا شعبة عن حميد قال، سمعت أنسا يقول: كانت الأنصار يحفرون الخندق فجعلوا يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا     على الجهاد ما بقينا ابدا
فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة    فأكرم الأنصار والمهاجرة.

ليس هذا اللفظ منه صلى الله عليه وسلم على وزن شعر لكنه قريب منه، وقد سمع السلف والأكابر الأبيات بالألحان فمن قال بإباحته من السلف: مالك ابن أنس، وأهل الحجاز كلهم يبيحون الغناء وأما الحداء فإجماع منهم على إجازته".
ويقول ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: "ونقل ابن عبد البر الاتفاق على إباحة الحذاء، وفي كلام بعض الحنابلة إشعار بنقل خلاف فيه، ومانعه محجوج بالأحاديث الصحيحة، ويلتحق بالحداء هنا الحجيج المشتمل على التشوق إلى الحج بذكر الكعبة وغيرها من المشاهد ونظيره ما يحرض أهل الجهاد على القتال، ومنه غناء المرأة لتسكين الولد في المهد".
وعند قول ابن حجر" وفي كلام بعض الحنابلة إشعار بنقل خلاف فيه" كأنه يشير إلى موقف ابن تيمية المتشدد في هذا الباب والمخالف لمذهب السلف بزعم السلفية.
بحيث يرى حسب دعواه أن لا سماع كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مشروعا سوى القرآن الكريم، وبشكل فردي غير جماعي، إذ كما يقول: «كان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا رجلا منهم أن يقرأ وهم يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون» وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فجعل يستمع لقراءته، وقال: «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير داود» وقال: «مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك، فقال: لو علمت أنك تسمعني لحبرته لك تحبيرا» أي لحسنته لك تحسينا…
ولم يكن في السلف الأول سماع يجتمع عليه أهل الخير إلا هذا؛ لا بالحجاز ولا باليمن ولا بالشام ولا بمصر والعراق وخراسان والمغرب، وإنما حدث السماع المبتدع بعد ذلك…".
وفي كلام ابن تيمية هذا إسقاط وتكلف وتضييق ومخالفة لمقتضيات ونصوص شرعية والأقوال السابقة لعلماء الأمة السنيين من أهل الفقه والحديث والتصوف والسلوك.
إذ فيما يخص قراءة القرآن جماعة فإن ظاهر الخطاب يفيده كما نجده في قول الله تعالى: «وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا، قل أفأنبئكم بشر من ذلكم، النار وعدها الله الذين كفروا، وبيس المصير».
كذلك قوله تعالى: «فاقرأوا ما تيسر من القرآن، علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرأوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا».
أما في الحديث فنجد قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرأوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه» وايضا «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعر بين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار» الحديث.
فالحديثان بعبارتهما ومعانيهما قد يدلان على جواز بل استحباب قراءة القرآن جماعة بالأمر والندب والتقرير النبوي.
إذ في الحديث الأول يكون شرط الاجتماع على القرآن الكريم للتلاوة هو ائتلاف القلوب، وهو يحتمل إما أن يكون معناه الحفظ وإما الانسجام الذي يعطيه الذكر وتعارف الأرواح.
فبحسب المعنى الأول يكون لابد من إتباع صيغة معينة يؤم بها مستظهر لكتاب الله تعالى تسير بحسب قراءته الجماعة في الوقف والإمالة والمد وغيرها مما هو معروف في علم التجويد، وذلك حتى لا يختل نظام القراءة.
وأما الحديث الثاني فالمعنى فيه غالب على اعتبار الصوت الجماعي ونستشفه من قول النبي صلى الله عليه وسلم «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن» وهذه العبارة أكثر دلالة على القراءة الجماعية منها على القراءة الفردية، خاصة وأنهم لم يكونوا كلهم مجودين أو متغنين بالقرآن على نمط أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
ومن هنا فالقول بأن قراءة القرآن جماعة بدعة سلبية يعد مغالاة في غير مصلحة الدين، لأنه لا يميز بين ماهو موحد للأمة وما هو مشتت لها حينما لا تأتلف القلوب على قراءة القرآن.
وعلى فرض أن قراءة القرآن لم تكن جماعية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حسب دعوى ابن تيمية رغم النصوص وظواهرها المفيدة للعكس كما مر بنا، فإن القراءة الجماعية تبقى مشروعة، خاصة وأن القرآن في المرحلة الأولى لم يكن بعد قد جمع في مصحف واحد، لكنه بعدما جمع يكون من الأسهل الاجتماع على قراءته وذلك بعدما رسم بعلامات الوقف وما إلى ذلك مما سهل ضبط القراءة الجماعية وكان من اجتهاد علماء الأمة الذين هم ورثة الأنبياء.
ولا أريد أن اطيل في هذا الباب، إذ يكفيني أن قراءة القرآن جماعة لها بعدها التوحيدي لظواهر الأشخاص وقلوبهم كما نص عليه الحديث النبوي، إذ كان طرحنا لهذا الموضوع في هذا الباب مجرد تنبيه على أن ابن تيمية فتح بابا للذريعة دخله من جاء بعده فشوشوا على المسلمين اجتماعاتهم على ذكر الله وقراءة القرآن واستظهاره بالطريقة الجماعية وفي زمن قل الاهتمام بالكتاتيب القرآنية وقل حفظة القرآن ومعلموه، إذ القراءة الجماعية تكون تذكيرية وتشجيعية، وسماع القرآن يكون موعظة ورحمة سواء كان فرديا أو جماعيا كما تروي السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في المسجد فقال: يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية من سورة كذا».

2) السماع بين المشروعية وتضييق مدعي السلفية:

ونعود إلى موضوع السماع الذي يعتبره ابن تيمية بدعة بأشكاله وأنواعه مع اضطراب فتاويه في هذا الباب وخلطه بين القراءة والسماع لغة واصطلاحا، فنقول: حينما يصرح بأنه «لم يكن في السلف الأول سماع يجتمع عليه أهل الخير إلا هذا» يكون قد تكلف الحصر والاستثناء وضيق مجال السماع بإسقاطاته الذاتية فوقع في مخالفة نصوص شرعية دالة عليه.
ومن هذه النصوص الثابتة والصحيحة:
عن أنس رضي الله عنه قال: «جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة وينقلون التراب على متونهم ويقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا      على الإسلام ما بقينا ابدا
والنبي صلى الله عليه وسلم يجيبهم ويقول :
اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة        فبارك في الأنصار والمهاجرة
وعن البراء رضي الله عنه قال: « رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو ينقل التراب حتى وارى التراب شعر صدره، وكان رجلا كثير الشعر وهو يرتجز برجز عبد الله بن رواحة: 
اللَّهمَّ لولا أنتَ ما اهتدَيْنا         ولا تَصدَّقنْا ولا صَلَّيْنا
فأَنزِلَنْ سَكينةً علَيْنا                وثبِّتِ الأقدامَ إنْ لاقَيْنا 
إنَّ الأَعْداءَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا         إذا أَرادُوا فِتْنََةَ أَبَيْنَـا 
يرفع بها صوته»
وعن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خبير فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر ابن الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ قال وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم يقول:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا    ولا تصدقنا ولا صلينا 
فاغفر فداء لك ما اقتفينا    وثبت الأقدام إن لاقينا 
والقيـن سكينـة علينـا        إنا إذا صيح بنا أتينـا. 
وبالصياح عولوا علينا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من هذا السائق؟ قالوا: عامر بن الأكوع فقال: يرحمه الله. فقال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لولاأمتعتنا به؟. فقال: فأتينا خبير فحاصرناهم حتى أصابتنا مخصمة شديدة. ثم إن الله فتحها عليهم… فلما تصاف القوم كان سيف عامر فيه قصر فتناول به يهوديا ليضربه ويرجع ذباب سيفه، فأصاب ركبة عامر فمات منه، فلما قفلوا، قال سلمة: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم شاحبا فقال لي مالك؟ فقلت فدى لك أبي وأمي، زعموا أن عامرا حبط عمله، قال، من قاله؟ قلت: قاله فلان وفلان وأسيد بن الحضير الأنصاري،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذب من قاله. إن له لأجرين -وجمع بين أصبعيه- إنه لجاهد مجاهد قل عربي نشأ بها مثله».

إذن فالسماع مشروع والمسمع مأجور إذا كان كلامه طيبا ومروّحا عن النفوس لغاية شريفة، وخاصة في زمن كثر فيه اللهو واللغو والجفاف والجفاء والفاحش من الغناء ونزوات الشعراء، مما يستدعي كتعويض وصرف بالمناسب إلى الإكثار من السماع النقي والتغني بالجميل من الشعر الصوفي الناتج عن الذكر وصحة الفكر وسلامة الصدر.
ومن هنا فالوسيلة تحددها الغاية والثمرة، كما تتحدد الأخيرة بها، والناتج ما بين الوسيلة والغاية يكون مشروعا كما سبق وبينا.
وعلى هذا فلا حجة لابن تيمية في أن يمنع استعمال السماع كوسيلة لتقريب معاني الإيمان والتوحيد إلى القلوب والنفوس من أجل إنقاذها وكسب ميلها وحبها للإسلام وأحكامه.

وقد يكون من الخطأ البين الذي لا يقبله الشرع أو العقل وكذا الذوق أن تمنع الوسيلة المشروعة من الاعتماد في الدعوة إذا كانت ستؤدي إلى غاية سليمة وهداية. ومن نموذج هذا الخطأ نجد فتوى ابن تيمية لما سئل «عن جماعة يجتمعون على قصد الكبائر: من القتل وقطع الطريق والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك، ثم إن شيخا من المشايخ المعروفين بالخير واتباع السنة قصد منع المذكورين من ذلك، فلم يمكنه إلا أن يقيم لهم سماعا يجتمعون فيه بهذه النية، وهو بدف بلا صلاصل، وغناء المغني بشعر مباح بغير شبابة، فلما فعل هذا تاب منهم جماعة وأصبح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي، يتورع عن الشبهات ويؤدي المفروضات ويتجنب المحرمات، فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه لما يترتب عليه من المصالح؟ مع أنه لا يمكنه دعوتهم إلا بهذا؟».

فأجاب بإسقاط ومن غير تحفظ أو إدراك للمصلحة وسد للذريعة: «إن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعين على الكبائر، فلم يمكنه ذلك إلا بما ذكره من الطريق البدعي، يدل على أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي بها تتوب العصاة، أو عاجز عنها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية».

هكذا إذن يلقي ابن تيمية الكلام على عواهنه يجمع بين التبديع والتجهيل للآخر والتضييق في باب الدعوة وأسلوبها، ولا يراعي النتيجة والغاية بله مشروعية الوسيلة كما سبق وبيناها نصا.
وإذا رجعنا إلى أسلوب دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فإننا نجده قد أقر للشعراء شعرهم وللمادحين مدحهم وللمنشدين إنشادهم وحدوهم، بل قدم في الدعوة الوليمة وأسباب الالفة وضرب المثال بالدنيا قبل الآخرة. 
ومن هنا يكون ابن تيمية محجوجا كما قال ابن حجر، «وعند التنازع يجب الرد إلى الله والرسول وليس فعل غير الرسول حجة على الإطلاق» على حد تعبير وتعهد ابن تيمية نفسه. 
إن السماع الصوفي يعتبر من أجمل ما أنتجته هذه الأمة من فن ونشيد كله ينشد معناه في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كتعبير عن صفاء القلوب وذوقها لحلاوة التوحيد الذي يربطها بعالم الذر والتجريد. 
وما أجمله من تحليل وتفسير لعلاقة الوجد أو الحال بالسماع لا يستطيع علماء النفس على اختلاف مدارسهم وتقدمها أن تستنتج مثله مهما غاصوا في بحر ما خفي عن الشعور، هو هذا الذي عبر عنه الإمام أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى لما سئل: «ما بال الإنسان يكون هادئا فإذا سمع السماع اضطرب، فقال: إن الله تعالى لما خاطب الذر في الميثاق الأول بقوله: «ألست بربكم؟ قالوا: بلى». استفرغت عذوبة سماع الكلام الأرواح فلما سمعوا السماع حركم ذكر ذلك.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية