آخر الأخبار

جاري التحميل ...

مشارق أنوار القلوب و مفاتح أسرار الغيوب-5



الباب الأول
في الطريق الموصلة للنفوس الزكيّة
إلى المحبّة الحقيقية


اعلم أنّ أجلّ ما في الوجود السعادة الأبديّة كما تقدّم ولا يُتوصل إلى هذه السعادة إلّا بمحبّة الحق تعالى بكل القلب من غير شرك في محبّته. ولا يوصِّل إلى كل محبة إلا المعرفة بكمال المحبوب وجماله إذ مَن لا يعرف لا يحبّ، وكلّما كان المحبوب في نهاية الأوصاف الجميلة وحصلت المعرفة التامّة بتلك الأوصاف على حقيقتها ظهرت المحبّة على الذّات العارفة عقيب ذلك ظهورا لازماً، أجرى الله بذلك السنّة. فالمحبّة إذاً ثمرة المعرفة والمعرفة علّة المحبّة وسببها فهي متقدِّمة على المحبّة بالسبب والمحبة متقدمة عليها بالشرف من حيث إنها مقصودها، وكلّ محبّ عارف وليس كل عارف بمحب أعني في ابتداء المعرفة، فأمّا إذا حصلت المعرفة على الكمال وتوالت بتواليها المحبّة حصل كل واحد منها على الآخر، فحينئذ يكون المحبّ هو نفس العارف والعارف هو عين المحبّ من غير رُتبة، وذلك أنّ المعرفة إذا تأكّدت أثمرت المحبّة وإذا تأكّدت المحبّة تجلّت للمحبّ أوصاف حبيبه، ودام هذا التجلِّي بدوام المحبّة ودامت المحبّة بدوام التجلّي، وحصل من ترادف هذه الواردات على قلب المحب معرفتها على ما هي عليه، فقد اتّحد بهذا الشهود والتجلي محبة العارف ومعرفةُ المحبّ، وصار كل واحد من هذين المقامين مُولِّداً للآخر على التعاقب.


ولما كانت المعرفة لابدّ من تحصيلها - إذ كانت لا توجد في النفس بأول الفطرة لسبْق الأوهام إلى الإنسان أولا قبل شروق نور العقل ورسوخ تلك الأوهام بالعادة، هذا في حق أكثر الخلق إلّا النّادر والشاذّ - فلا تحصل المعرفة عند الجمهور في أول الأمر إلا بطريق النظر والاستدلال بالصناعة الإلهية، إذ الصّنعة دالّة على صانعها بالضرورة ومشيرة إليه، فسبيل السالك أن يتصفّح الوجود ويديم الفكرة في المُبدعات الإلهية وآثار عجائب الصنعة الربانيّة الدالّة على كمال صانعها وجماله وبهائه وجلاله فإن ذلك هو باب المعرفة، كما أن العالِم الغائب عن الأبصار إنما يُستدلّ عليه بتصانيفه. وإذا كان ذلك كذلك فأجلّ الصنائع الإلهية وأعلاها دلالة وأظهرها حكمة وأجلاها برهانا عالمُ الإنسان لما أشرق عليه من نور النفس التي هي من عالم الأمر والدالّة عليه، والدليل على شرفها أن الحق تعالى أضافها إلى نفسه حيث قال : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}[الإسراء:85] وقال : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}[الحجر:29 وقال عليه السلام : (مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ) إلاّ أن النفس لا يدركها الإنسان أولاً مجرّدة عن الأجسام إذ الأجسام مظاهرها التي لا تظهر إلا بها، فمظاهر النفوس الإنسانية الصور الآدمية المعتدلة المزاج، فإن الجسم كلما اعتدل صفا وكلما صفا حصلت فيه صورة القبول لأنوار النفس التي هي من أنوار الحق تعالى، فلذلك كان هذا العالم الإنساني من أدلّ شيء على معرفة صانعه الحق تعالى، لأنه اختصّه من بين سائر الحيوان بأسرار الملك والملكوت، وبدائع عجائب عالم الجبروت، فله الدلالة العظمى، إذ هو الآية الكبرى، ونسخَة العالَم الكلي المشتمل على الأسفل والأعلى.


أول  السابق  التالي


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية