نفحات الطريق

يعنى الموقع بالتأصيل الشرعي للتصوف المقتبس من مشكاة نور النبوة والتعريف بمقامات وأعلام الصوفية. إلى جانب نشر كتب ورسائل عن التصوف.

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

المقامات مقامات

سُبحة جلال الدين الرومي

أكتب هذه الكلمات وانا في زيارة خاصة لمدينة قونيا / تركيا . وقد ذهبت لزيارة "حضرت مولانا" كما يعبر الاتراك عن ذلك ، المتوفى سنة ٦٧٢ هجري . وشخصية " مولانا " جلال الدين الرومي ، كانت متميزة في كل تفاصيلها منذ نعومة أظفاره ، يخرج به والده وقد كان عالما فقهيا من مدينة بلخ، ومعه مولانا لأسباب عدة ذكرها المؤرخون ، وكان آنذاك مولانا مع والده لم يتجاوز ١٢ عاما ويراهما أحد العلماء والشاب الصغير يسير خلف والده فما كان من هذا العالم إلا أن قال : ( إنني لأعجب  كيف ! محيط يسير خلف بحر ؟! ) هذا الاستشراف لهذه الشخصية تكرر أكثر من مرة ، تعلم " مولانا"  جلال الدين الرومي على يد والده العلوم الشرعية وتفنن بها دراسة وتدريسا وكان يشتغل بالعلوم النقلية والعقلية ، ولكن هذا لم يبعده عن اهتماماته الأدبية فقد كتب الشعر كما في كتابه  "مثنوي" وغيره وكان يجد في الشعر متنفسا لما يعايشه من حالة العشق والوجدان والحب لله تعالى ، فقد نفحه شيخه " شمس الدين التبريزي" الذي التقاه بطريقة عجيبة كما تذكر كتب التاريخ ، والذي مات مقتولا بعد ذلك على يد الحساد والمبغضين ،  وكان قد أمد "مولانا" بمعاني العرفان التي لا يمكن لقلم أن يترجمها حق ترجمتها فما كان لها سوى المجاز والكناية ، ويفهم فقط من أدركته العناية . امتلئ قلب" مولانا" بالحب لله تعالى ورسوله وللخلق جميعا  بعيدا عن ألوانهم وأشكالهم وأديانهم وطوائفهم ، لذلك تحلق واجتمع حوله الجميع ليتعلموا نقاء السريرة ، وقد كان مولانا رحمه الله تعالى ذاكرا لله تعالى صاحب حال ووجد مع علم واسع، أخذه إلى مشهدين اثنين أثر في الناس جميعا من خلالهما : 

الأول : الذكر لله تعالى ، والذي كان يصحبه بحركات تعبر عن حب الله وعدم الالتفات إلى الدنيا ، وبما اشتهر بعد ذلك بالطريقة المولوية ، نسبة إلى  "مولانا" . 

الثاني : الموسيقى وعلى الخصوص " الناي" وقد كان مولانا خبيرا بفن الموسيقى  ولقد كتب قصيدة تعد من روائعه عن الناي . 

اتفقنا أو اختلفنا حول اجتهادات " مولانا " السلوكية لكننا مما لا شك فيه بأننا نتفق مع منهجه الذي كان ينشر من خلاله المحبة والتسامح والرحمة ، يعني الإسلام بظاهره وباطنه ،أو قل : بشريعته وحقيقته، أو قل إذا شئت خرج من شكلانية الإسلام إلى روحه ومضمونه ليكون للشكل أثر صحيح ، وهذه هي أفكار " مولانا" تطبق على أرض الواقع إلى يومنا هذا  من خلال المعاهد والجامعات .

وفي زيارتي لمقام " مولانا" رأيت أن الزائرين مختلفين في أشكالهم وأديانهم ومذاهبهم دلالة على سعة " مولانا" وسعة الاسلام من قبله ، في قبول الآخر ورحمته ،  إذ كلما اتسعت رحمة ورأفة الإنسان كلما كان أبعد عن التطرف والانغلاق والإقصاء للآخر .

الناس يقفون أمام الشيخ جلال الدين الرومي  باحترام مع أنه يختلف معهم ولكنهم لا يختلفون عليه .

" مولانا " رسالة في المحبة ، كيف لا وقد أخذ الشيخ جلال الدين الرومي هذه الصفات والقيم العظيمة من رسولنا الكريم الذي يقول عن نفسه:  ( إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ ) . 

إن التمسك بالأفكار لا يقل أهمية عن التمسك بالآثار ، فمن أحب الفكرة تمسك بآثارها ، فهذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تمسك بآثار الأنبياء من قبله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وغيرهم ، وهذه مكة والمدينة المنورة مليئة بالمشاهد والآثار من مقبرة ( معطرة) البقيع ، وثبوت تكرر زيارة النبي عليه السلام لها ، وحجر إسماعيل عليه السلام ، وقوله تعالى مشيرا إلى أثر سيدنا إبراهيم ( واتَّخَذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى ) وغيرها من الآثار الكريمة ،  لنربط الحاضر بالماضي وأننا لسنا بدعا من الناس بل سلسلة متصلة إلى قيام الساعة .

إن الوقوف أمام المقامات والآثار يعطي الإنسان فرصة للتعرف على أفكارهم فهو بحد ذاته نشر لثقافة الحب والتسامح والعلم والعمل .

وإن إحياء آثار الأنبياء والأولياء يمثل برنامجا اجتماعيا روحيا وسلوكيا لاستلهام الإرشادات .

وفي ختام زيارة مولانا لا يمكنني إلا  أن أقول : إن مقامه وزواره يشهدون على أفكاره وأفكاره تشهد على مقامه . 

كتبه : 

د. ربيع العايدي
/ قونيا / بجانب مقام " مولانا " جلال الدين الرومي .
٢٠٢١/٩/١٢ ميلادي .

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق