آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل-38

الباب الثامن والثلاثون في الزبور

الزبور لفظة سريانية هي بمعنى الكتاب، واستعملها العرب حتى أنزل الله عز وجل: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ}[القمر:52] أي: في الكتاب، وأنزل الزبور على داوود آيات مفصلات ولكنه لم يخرجه لقومه إلا جملة واحدة بعد أن أكمل الله تعالی نزوله عليه. وكان داود عليه السلام ألطف الناس محاورة وأحسنهم شمائل، وكان إذا تلا الزبور وقفت الحيوانات من الوحوش والطيور حوله، وكان نحيف البدن قصير القامة، ذا قوة شديدة كثير الاطلاع على العلوم المستعملة في زمانه.

واعلم أن كل كتاب أنزل على نبي ما جعل فيه من العلوم إلا حد ما يعلمه ذلك النبي حكمة إلهية لئلا يجهل النبي ما أوتى به، والكتب تتميز بعضها على بعض في الأفضلية بقدر تميز المرسل بها على غيره عند الله تعالى. ولهذا كان القرآن أفضل كتب الله تعالى المنزلة على أنبيائه، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أفضل المرسلين.

فإن قلت: كلام الله لا أفضلية فيه بعضه على بعض، قلنا : قد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سورة الفاتحة أفضل آي القرآن» فإذا صحت الأفضلية في القرآن بعضا على بعض فلا امتناع في بقية الكتب من حيث الجملة.

واعلم أن الزبور أكثره مواعظ وباقيه ثناء على الله بما هو له فيه وما فيه من الشرائع إلا آيات مخصوصة، ولكن تحتوي تلك المواعظ وذلك الثناء على علوم جمة إلهية حقيقية، وعلم الوجود المطلق، وعلم تجلي الحق تعالى في الخلق، وعلم التسخير والتدبير، وعلم مقتضيات حقائق الموجودات، وعلم القوابل والاستعدادات، وعلم الطبيعات والرياضات، وعلم المنطق، وعلم الخلافة، وعلم الحكمة، وعلم الفراسة إلى غير ذلك من العلوم، وكل ذلك بطريق الاستتباع؛ ومنه شيء على سبيل التصريح مما لا يضر إظهاره، ولا يؤدي إلى كشف سر من أسرار الله تعالى.

وكان داود عليه السلام كثیر العبادة، وكان يعلم منطق الطير بالكشف الإلهي، ويحدثهم بالقوة الإلهية، فيبلغهم في آذانهم ما يريده من المعاني بأي لفظ شاء، لا كما يزعمه من لا معرفة له بحاله، فيزعم أنه كان يتكلم بنفس لغة الطير زعما منه أنها على لفظ مصطلح عليها، بل كان يفهم أحاديث الطيور على اختلاف أصواتها ويعلم المعاني التي تدل عليها تلك الأصوات بطريق الكشف الإلهي وذلك قول ولده سليمان: {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ}[النحل:16} واستمر به ذلك الحال حتى زعم من زعم أن للطيور لغة موضوعة تتحدث بها بعضها مع بعض، وأن فهم داود لها من حيث معرفته بذلك الوضع، بل إنما لها أصوات تخرجها من غير وضع معلوم لدني، لكنها إذا عرض لها حال برز فيها صوت فيفهمه غيرها من الطيور إلهاما إلهيا لما فيها من اللطف الروحي، فكانت سائر الحيوانات إذا برز منها صوت علم داود منها ما تضمنه الصوت علما كشفيا إلهيا، وكان إذا أراد داود أن يكلم أحدا منهم كلمه إن شاء باللغة السريانية وإن شاء بغيرها من أصوات الحيوانات فيفهمه ذلك الحيوان للقوة الإلهية التي جعلها الله تعالى لداود في كلامه.

وهذا الأمر الذي جعله الله لداود وسليمان عليه السلام وسليمان غير مقصور علهما ولا محصور فيهما وإنما هو أمر عام في جميع الخلفاء، أعني الخلافة الكبرى. وما اختص داود وسليمان إلا بظهور ذلك والتحدي به، وإلا فكل واحد من الأفراد والأقطاب له التصرف في جميع المملكة الوجودية، ويعلم كل واحد منهم ما اختلج في الليل والنهار فضلا عن لغات الطيور. وقد قال الشبلي رحمه الله تعالى: "لو دبت نملة سوداء على صخرة صماء في ليلة ظلماء ولم أسمعها لقلت: إني مخدوع أو ممكور بي". وقال غيره: "لا أقول ولم أشعر بها لأنه لا يتهيأ لها أن تدب إلا بقوتي وأنا محركها، فكيف أقول لا أشعر بها وأنا محركها".

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لزم الجني وأراد أن يربطه إلى سارية المسجد، ثم ذكر دعاء سلیمان فتركه، فعلم من ذلك أن قول سلیمان: {وَهَبْ لِى مُلْكًا لَّا يَنۢبَغِى لِأَحَدٍۢ مِّنۢ بَعْدِىٓ}[ص:35] إنما أراد به التحدي والظهور بهذه الخلافة، وهو الذي لا ينبغي لأحد من بعده على الكمال.

وأما في بعض الأشياء دون بعض فقد ظهرت به الأنبياء وتبعهم فيه الأولياء رضوان الله عليهم.

واعلم أن الزبور في الإشارة عبارة عن تجلیات صفات الأفعال، والتوراة عبارة عن تجليات جملة أسماء الصفات فقط، والإنجيل عبارة عن تجليات أسماء الذات فقط، والفرقان عبارة عن تجليات جملة الصفات والأسماء مطلقا الذاتية والصفاتية، والقرآن عبارة عن الذات المحض، وقد سبق الكلام على القرآن والفرقان والتوراة.

وكون الزبور عبارة عن تجلیات صفات الأفعال فإنه تفصيل التفاريع الفعلية الاقتدارية الإلهية ولذلك كان داود عليه السلام خليفة على العام فظهر بأحكام ما أوحي إليه في الزبور، فكان يسير الجبال الراسيات، ويلين الحديد ، ويحكم على أنواع المخلوقات.

ثم ورث سلیمان ملكه فكان سليمان وارثا عن داوود، وداود عن الحق المطلق، فكان داوود فضل لأن الحق آتاه لخلافة ابتداء وخصه بالخطاب في قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ}[ص:26] ولم يحصل ذلك لسليمان إلا بعد طلبه على نوع الحصر. وعلم داود أنه لا يمكن لأحد أن يقتصر الخلافة عليه ظاهرا وباطنا، فلم يعطه الحق إلا من حيث الظهور، ألا ترى إلى قوله تعالی حيث أخبر عن سليمان أنه قال:{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي} فقال في جوابه:{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِ}.

ثم عدد ما أوتي سليمان من الاقتدارات الإلهية ولم يقل فآتيناه ما طلب لأن ذلك ممتنع اقتصاره على أحد من الخلق لأنه اختصاص إلهي، فمتى ظهر الحق تعالى في مظهر بذاته كان ذلك المظهر خليفة الله في أرضه، وإليه الإشارة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّٰلِحُونَ }[الأنبياء:105] يعني: الصالحين للوارثة الإلهية.

والمراد بالأرض هنا الحقائق الوجودية المنحصرة بين المجالي الحقية والمعاني الخلقية، وإليها الإشارة في قوله:{إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}[العنكبوت:56]، فإن قلت: إن دعوة سليمان مستجابة باعتبار أن المملكة الكبرى لا تنبغي لأحد من بعد الله وهو حقيقة سليمان فقد صحت الدعوة له فقد صدقت. وإن قلت: إن دعوة سليمان غير مستجابة باعتبار عدم قصر الخلافة عليه وأن ذلك قد صح لمن بعده من الأقطاب والأفراد فقد صدقت، فاعتبر كیف شئت.

فلما علم داود امتناع قصر الخلافة عليه نزل هذا الطلب، فطلب سلیمان تأدبا إلهيا يريد تفرده بالمظاهر الإلهية لتفرد حقه بها، وهذا ولو كان ممتنعا فهو جائز الطلب للوسع الإلهي والإمكان الوجودي، ولكن لا يعلم أحد صح له ذلك أم لا، وفي هذا المقام أخبر الحق تعالى عن أوليائه فقال :{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }[الأنعام:91] .{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الصافات:180]، فصار من هذا الوجه ممتنعا، فلهذا قال الصديق الأكبر: "العجز عن درك الإدراك إدراك". وقال عليه السلام: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"، فتأدب صلى الله عليه وسلم في طلب ما لا يمكن حصوله، واعترف بالعجز لكمال ربه. وكان عليه الصلاة والسلام أعرف بربه من سليمان، لأن سليمان عرف ما ينتهي فطلب حصوله ومحمد صلى الله عليه وسلم عرف ما لا ينتهي فتأدب عن طلب إدراك ما لا يدرك.أعني تأدب فترك الدعاء بحصول ذلك لعلمه أن الله تعالى لم يجعله لأحد، وإنه خصوصية فيه ذاتية استأثر الله تعالى بها عن سائر خلقه.

فانظر بين من لمعرفته بربه حد ينتهي إليه، وبين من لا حد لمعرفته بربه ولا نهاية لها، وفي هذا المقام قال المحمديون من الأولياء ما قالوا.

فقال شيخنا للشيخ عبد القادر الجيلاني:"معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب وأوتينا ما لم تؤتوه"، هكذا روي عن الإمام محيي الدين بن العربي في الفتوحات المكية بإسناده، وقال الشيخ أبو الغيث بن جميل رضي الله عنه:"خضنا بحرا وقف الأنبياء بساحله".

وهذا الكلام وإن كان له وجه من التأويل، فمذهبنا أن مطلق النبي أفضل من مطلق الولي. وسيأتي الكلام على النبوة والولاية في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

والله يهدي إلى الصواب.


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق