بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
المُقَدِّمَةُ
تُعَدُّ المَعِيَّةُ مَعَ اللَّهِ مِنَ المَفَاهِيمِ الدَّقِيقَةِ فِي العَقِيدَةِ الإِسْلَامِيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي مَوَاضِعَ عِدَّةٍ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَىٰ:
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النَّحل: 128]
وَقَوْلُهُ تَعَالَىٰ: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحَدِيد: 4]
وَقَدْ أَوْلَى عُلَمَاءُ التَّصَوُّفِ عِنَايَةً كَبِيرَةً بِهٰذَا المَفْهُومِ، وَعَدُّوهُ مَنْزِلَةً رَفِيعَةً مِنْ مَنَازِلِ السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَىٰ، لِأَنَّهَا تُعَبِّرُ عَنْ حَالَةٍ مِنَ الحُضُورِ القَلْبِيِّ وَالمُرَاقَبَةِ الدَّائِمَةِ الَّتِي يَعِيشُهَا المُؤْمِنُ فِي سَيْرِهِ إِلَى مَوْلَاهُ.
مَعْنَى المَعِيَّةِ عِندَ الصُّوفِيَّةِ
يَرَى الصُّوفِيَّةُ أَنَّ المَعِيَّةَ مَعَ اللَّهِ لَيْسَتْ قُرْبًا مَكَانِيًّا أَوْ حِسِّيًّا، بَلْ هِيَ قُرْبٌ رُوحِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، يَتَحَقَّقُ عِنْدَمَا يَصْفُو القَلْبُ مِنَ الغَفْلَةِ، وَتُرَاقَبُ الأَنْفَاسُ فِي حَضْرَةِ اللَّهِ.
فَالمَعِيَّةُ عِندَهُمْ هِيَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مَعَ عَبْدِهِ بِعِلْمِهِ وَنُورِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَرِعَايَتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ العَبْدُ مَعَ رَبِّهِ بِحُضُورِهِ وَذِكْرِهِ وَخُضُوعِهِ.
شُرُوطُ المَعِيَّةِ مَعَ اللَّهِ عِندَ الصُّوفِيَّةِ
تَحَدَّثَ أَئِمَّةُ التَّصَوُّفِ عَنْ شُرُوطِ المَعِيَّةِ الإِلٰهِيَّةِ، وَهِيَ مَقَامَاتٌ عَمَلِيَّةٌ يَتَدَرَّجُ فِيهَا السَّالِكُ حَتَّى يَبْلُغَ حَقِيقَةَ الحُضُورِ مَعَ اللَّهِ. وَمِنْ أَهَمِّ هٰذِهِ الشُّرُوطِ:
1. التَّقْوَىٰ
وَهِيَ الأَسَاسُ الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ جَمِيعُ المَقَامَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَىٰ:
﴿(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾.
وَالتَّقْوَىٰ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ اجْتِنَابِ الكَبَائِرِ، بَلْ كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
«الخَوْفُ مِنَ الجَلِيلِ، وَالعَمَلُ بِالتَّنْزِيلِ، وَالرِّضَا بِالقَلِيلِ، وَالاسْتِعْدَادُ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ».
فَلَا تَتَحَقَّقُ المَعِيَّةُ الخَاصَّةُ لِلْمُتَّقِينَ إِلَّا بِهٰذَا الوَعْيِ المُسْتَمِرِّ بِرِقَابَةِ اللَّهِ وَالخَشْيَةِ مِنْهُ.
2. الإِحْسَانُ
وَهُوَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ.
هٰذَا المَقَامُ هُوَ لُبُّ المَعِيَّةِ وَرُوحُهَا، فَمَنْ اسْتَشْعَرَ مُرَاقَبَةَ اللَّهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ عَاشَ فِي حَضْرَتِهِ، وَكَانَ اللَّهُ مَعَهُ بِتَأْيِيدِهِ وَلُطْفِهِ.
3. المُجَاهَدَةُ وَمُرَاقَبَةُ النَّفْسِ
لَا تَتَحَقَّقُ المَعِيَّةُ مَعَ وُجُودِ حِجَابِ النَّفْسِ وَالهَوَىٰ.
قَالَ الإِمَامُ الجُنَيْدُ:
«المُرِيدُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَىٰ بِحَسَبِ حِفْظِهِ عَنْ مُخَالَفَتِهِ».
فَمَنْ رَاقَبَ نَفْسَهُ فِي الخَوَاطِرِ وَالأَفْعَالِ وَالأَحْوَالِ، اقْتَرَبَ مِنْ مَعِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَىٰ.
4. دَوَامُ الذِّكْرِ
الذِّكْرُ هُوَ غِذَاءُ الأَرْوَاحِ وَدَوَامُ الصِّلَةِ بِاللَّهِ.
قَالَ تَعَالَىٰ:
﴿(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 191].
وَشِعَارُ الصُّوفِيَّةِ الدَّائِمُ: «مَعَ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ»، وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِدَوَامِ الذِّكْرِ حُضُورًا وَخُشُوعًا.
5. التَّخَلُّقُ بِالأَخْلَاقِ الإِلٰهِيَّةِ
أَيْ أَنْ يَتَخَلَّقَ العَبْدُ بِمَا يَلِيقُ بِالمَخْلُوقِ مِنْ صِفَاتِ رَبِّهِ: الرَّحْمَةِ، وَالعَفْوِ، وَالكَرَمِ، وَالحِلْمِ.
فَمَنْ رَحِمَ الخَلْقَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ عَفَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ:
«إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي».
6. الصِّدْقُ وَالإِخْلَاصُ
المَعِيَّةُ لَا تَجْتَمِعُ مَعَ الرِّيَاءِ.
قَالَ سَهْلُ التُّسْتَرِيُّ:
«عَلَامَةُ الإِخْلَاصِ أَلَّا يُرْضِيَ الخَلْقَ بِسَخَطِ الخَالِقِ».
فَالعَبْدُ المُخْلِصُ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، لَا يَطْلُبُ شُهْرَةً وَلَا مَدْحًا.
7. الفَنَاءُ عَنْ حُظُوظِ النَّفْسِ
لَيْسَ الفَنَاءُ الوُجُودِيَّ المَذْمُومَ، بَلْ فَنَاءُ الإِرَادَةِ فِي إِرَادَةِ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ السَّكَنْدَرِيُّ:
«هُوَ يَضْمَنُ لَكَ الإِجَابَةَ فِيمَا يَخْتَارُهُ لَكَ، لَا فِيمَا تَخْتَارُهُ لِنَفْسِكَ».
فَمَنْ فَنِيَ عَنْ إِرَادَتِهِ بَقِيَ بِنُورِ المَعِيَّةِ الإِلٰهِيَّةِ.
8. الاسْتِسْلَامُ وَالتَّسْلِيم
وَهُوَ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَالإِيمَانُ بِأَنَّهُ مَعَ عَبْدِهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ.
وَمَنْ سَلَّمَ قَلْبَهُ لِلَّهِ، وَجَدَ الطُّمَأْنِينَةَ فِي مَعِيَّتِهِ.
الخَاتِمَةُ
إِنَّ شُرُوطَ المَعِيَّةِ مَعَ اللَّهِ عِندَ الصُّوفِيَّةِ هِيَ فِي حَقِيقَتِهَا دُرُوبٌ عَمَلِيَّةٌ لِلتَّزْكِيَةِ وَالتَّرَقِّي الرُّوحِيِّ، تَبْدَأُ بِالتَّقْوَىٰ وَتَنْتَهِي بِالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ.
وَهِيَ لَيْسَتْ حِكْرًا عَلَى فِئَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ طَرِيقٌ مَفْتُوحٌ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مَعَ اللَّهِ كَمَا وَعَدَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾
وَاللَّهُ تَعَالَىٰ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ.