آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

سر الأسرار ومظهر الأنوار فيما يحتاج إليه الأبرار لعبد القادر الجيلاني - 2

فالعلم أشرف منقبة ، وأجلُّ مرتبة ، وأبهى مفخرة ، وأربح متجرَة ، إذ به يُتوصّل إلى توحيد ربّ العالمين ، وتصديق أنبيائه المُرسلين صلوات الله عليهم أجمعين .
صار العلماء خواص عباد الله الذين اجتباهم إلى معالم دينه ، وهداهم إليه بمزية الفضل، فآثرهم واصطفاهم ، وهم ورثة الأنبياء وخلفاؤهم، وسادة المسلمين وعرفاؤهم ، كما قال تعالى: « ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَالَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ» [فاطر: الآية ٢٢]. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «العُلماء ورثة الأنبياءِ بالعِلم، يحبّهُم أهل السّماء،وتستغفرُ لهمُ الحيتانُ في البحرِ لإلى يَومِ القيامةِ) . 
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَبْعَثُ اللَّهُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُمَيِّزُ الْعُلَمَاءَ ، فَيَقُولُ : يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ ، إِنِّي لَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ إِلا لِعِلْمِي بِكُمْ ، وَلَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ لأُعَذَّبَكُمُ ، انْطَلِقُوا فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ " .
والحمد لله ربّ العالمين على كلّ حال ، الذي جعل الجنّة الدّرجة حظاًّ للعابدين ، والقربة للعارفين .
أما بعد :
فلمّا خلق الله روح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أولاً من نور جماله كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي :( خلقتُ محمَّداً أوّلاً منْ نُورِ وَجْهِي) كما قال النبى صلى الله عليه وسلم أول :( أوّلُ ماخلقَ الله ُروحِي ، وأوّلُ ماخلقَ اللهُ نوري ، وأوَّلُ ماخلقَ اللهُ القلمَ ، وأوّلُ ماخلقَ اللهُ العَقلَ) والمراد منهم شىء واحد وهو الحقيقة المحمديّة ، لكن سمِّيَ نوراً لكونه صافياً عن الظلمانيّة الجلاليّة كما قال الله تعالى :(قدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) . وعقلاً لكونه مدركاً للكلّيات . وقلمَا لكونه سبباً لنقل العلم ، كما أن القلم سبب نقل العلم في عالم الحروفات ؛ فالروح المحمديّة خلاصة الأكوان ، وأوّل الكائنات وأصلها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أناَ مِنَ الله ، والمُؤمِنونَ مِنِّي) فخلق منه الأرواح كلّها فى عالم اللاهوت في أحسن التقويم الحقيقيّ ، وهو اسم حجلة الانس فى ذلك العالم ، وهو الوطن الأصليّ . فلما مضى عليها أربعة آلاف سنة خلق الله العرش من نور عين محمد صلى الله عليه وسلم ، وبواقى الكلّيات منه ، فرُدّت الأرواح إلى درك أسفل الكائنات - أعني الأجساد- كما قال الله تعالى :( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) يعنى أنزلهم أولاً من عالم اللاهوت إلى عالم الجبروت ، وألبسهم الله تعالى بنور الجبروت كسوة بين الحرمين - وهو الروح السلطانيّ - ثم أنزلهم بهذه الكسوة إلى عالم الملكوت ، ثم كساهم بنور الملكوت - وهو الروح الروحاني - ثم أنزلهم إلى عالم الملك وكساهم بنور الملك - وهو الروح الجسماني - ثم خلق الله الأجساد كما قال الله تعالى :( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ...) ثم أمر الله تعالى الأرواح أن تدخل فى الأجساد فدخلت بأمر الله تعالى كما قال الله تعالى :( ونَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ... ) فلما تعلّقت الأرواح وأَنِسَت بالأجساد نَسِيَت ما اتّخذت من عهد الله الميثاق فى يوم :( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ... ) فلم ترجع إلى الموطن الأصليّ ، فترحّمَ الرحمن المستعان عليهم بإنزال الكتب السماوية تذكرة لهم بذلك الوطن الأصلى كما قال الله تعالى :( وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ) أي : أيام وصاله فيما سبق مع الارواح - فجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جاءوا فى الدنيا وذهبوا إلى الآخرة لذلك التنبيه ، فقلّما من يذكر منهم وطنه الأصليّ ويرجع ويشتاق إليه ، ويصل إلى العالم الأصليّ ، حتى أفضت النبوة إلى الروح الأعظم المحمديّ خاتم الأنبياء عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيّات وعلى جميع الأنبياء والمرسلين فأرسله الله تعالى إلى هؤلاء الناس الغافلين ليفتح بصيرتهم من نوم الغفلة ، ويدعوهم إلى الله تعالى ووصاله ، ولقاء جماله كما قال الله تعالى:( قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚعَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) والبصيرة عين الروح ، تُفتَحُ فى مقام الفؤاد لأولياء ، وذلك لايحصل بعلم الظاهر بل بعلم الباطن اللّدنيّ كما قال الله تعالى :(وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) فالواجب على الانسان تحصيل تلك العين على أهل البصائر بأخذ التلقين من وليّ مرشد يخبر من عالم اللاهوت.
فيا أيها الإخوان انتبهوا وسارعوا الى مغفرة من ربّكم بالّتوبة فادخلوا في الطريق ، وارجعوا إلى ربّكم مع هذه القوافل الرّوحانيّة ، فعن قريب ينقطع الطريق ولا يوجد الرّفيق إلى ذلك العالم ، فما جئنا بتنقية هذه الدنيا الذنيّة الخرّابية والنقنع بالمهمّات النفسانية الخبيثة فنبيكم عليه الضلاة والسّلام لأجلكم منتظر مغموم كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (غُمّيَ لأَجْلِ أُمَّتِي الّذينَ في آخِرِ الزَّمَانِ ) .

فالعلم المنزل علينا علمان ، ظاهر وباطن – يعني الشريعة والمعرفة – فأمِر بالشريعة على ظاهرنا ، وبالمعرفة على باطننا ، لينتج من اجتماعهما علم الحقيقة كما قال الله تعالى : "مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ" ﴿الرحمن:19-20﴾، وإلاّ فبمجرد علم الظاهر لا تحصل الحقيقة ، ولا يصل إلى المقصود ، والعبادة الكاملة بهما ، لا بواحدهما كما قال الله تعالى : "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" أي : ليعرفوني – فمن لم يعرفه كيف يعبده. 

فالمعرفة إنما تحصل بكشف حاجب النفس عن مرآة القلب بتصفيته ، فيرى فيها جمال الكنز المخفي في سر لب القلب كما قال الله تعالى في الحديث القدسي : (كنت كنزا مخفيًّا فأحببتُ أن أُعرف ، فخلقتُ الخلقَ لكي أُعرف ) فلما بين الله تعالى خلق الإنسان لمعرفته وجبت عليه معرفته. 
فالمعرفة نوعان : معرفة صفات الله ، ومعرفة ذات الله. 
فمعرفة الصفات تكون حظ الجسم في الدراين ، ومعرفة الذات تكون حظ الروح القدسي في الآخرة كما قال الله تعالى : "...وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ..." (البقرة : الآية 87) وهم مؤيدون بروح القدس . 
وهاتان المعرفتان لا تحصلان إلا بالعلمين ، علم الظاهر وعلم الباطن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الْعِلْمُ عِلْمَانِ : عِلْمٌ باللّسان ؛ ، وذَلِكَ حُجَّةُ اللَّهِ تعالى عَلَى ابن آدمَ , وعلم بالجنانِ ؛ فذلك العِلْمُ النّافِعُ ). 
والإنسان يحتاج أولا إلى علم الشريعة ليُحصّل الروح كسب البدن به وهو الدرجات. ثم يحتاج إلى علم الباطن ليحصّل الروح كسب معرفته في علم المعرفة، وذلك لا يحصل إلا بترك الرسومات التي هي مخالفة للشريعة والطريقة ، وحصوله بقبول المشقات النفسانية والروحانية لرضاء الله تعالى بلا رياء ولا سمعة كما قال الله تعالى : "فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" . 
وعالم المعرفة: عالم اللاهوت، وهو الوطن الأصلي المذكور الذي خلق فيه الروح القدسي في أحسن التقويم. 
والمراد من الروح القدسي الإنسان الحقيقي الذي أودع في لبّ القلب ، ويظهر وجوده بالتوبة والتلقين . وملازمة كلمة لا إله إلا الله بلسانه أولا ، وبعده بحياة القلب وبعد حياة القلب يحصل بلسان الجنان ، وتسميه المتصوفة : طفل المعاني ، لأنه من المعنويات القدسية وتسميته طفلا لنُكاتٍ: 
أحدها : أن تولده من القلب كتولد الطفل من الأم فيربيه القلب كتربية الأم الولد فيكبر قليلا قليلا إلى البلوغ. 
والثانية : أن تعليم العلم للأطفال غالب ، فتعليم علم المعرفة لهذا الطفل أيضا غالب. 
والثالثة : أن الطفل مطهر من أدناس الذنوب ، فهذا أيضا مطهر من دنس الشرك والغفلة والجسمانية . 
والرابعة : أن الأكثر من الروح يرى في هذه الصورة الصافية للولد ، ولذلك يرى في المنامات على صورة المرد كالملائكة. 
والخامسة : أن الله تعالى وصف أبناء جنته بالطّفليّة بقوله تعالى: "يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ" (الواقعة : الآية 17) ، وبقوله تعالى : ( ... غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ) (الطور : الآية 24) 
والسادسة : أن هذا الاسم كان له باعتبار لطافته ونظافته. 
والسابعة : أن إطلاقه على سبيل المجاز باعتبار تعلقه بالبدن ، وتمثيله بصورة البشر بناء على أن إطلاقه عليه لأجل ملاحته لا لأجل استصغاره ، وبالنظر إلى بداية حاله ، وهو الإنسان الحقيقي ، لأن له أنسية مع الله تعالى. 
فالجسم والجسماني ليس محرما له لقوله صلى الله عليه وسلم : " لِي‌ مَعَ اللَهِ وَقْتٌ لاَ يَسَعُنِي‌ فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلاَ نَبِي‌ٌّ مُرْسَلٌ ". 
والمراد من النبي المرسل بشرية النبي . والملَك المقرب روحانيته التي خلقت من نور الجبروت ، كما أن الملك من نور الجبروت فلا يدخل في نور اللاهوت . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لله جنة لا فيها حور ولا قصور ولا جنان ولا عسل ولا لبن"، بل ينظر إلى وجه الله تعالى كما قال تعالى: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" (القيامة : الآيتان 22 ، 23) وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ستَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ " ولو دخل الملَك والجسمانية في هذا العالم لاحترقا كما قال الله تعالى في الحديث القدسي : " لو كشفت سبحات وجهي جلالي لاحترق كل ما مد بصري" ، وكما قال جبرائيل عليه السلام : " لو دنوت أنملة لاحترقت" .

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق