آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

كتاب : رهان الأرواح في صحبة قطب الصلاح الشيخ سيدي حمزة القادري بودشيش

إن هذه الأجواء الروحية و الاعتبار الذي رأيته من طرف جدي رحمه الله تعالى ربما يكون قد ترك لدي انطباعا جيدا وتعلقا معنويا بالزاوية ووظيفتها،كما سيكون شعوريا أو لا شعوريا قد أضفى على قلبي أريحية وميلا شفافا نحو الصوفية وأهل التصوف بصفة عامة ستتجلى آثارها فيما بعد. 
خاصة وأنني كنت أحب بلد جدي وأستأنس بأجوائه الصافية ونسائمه الندية،حيث كان يرتقي مرتفعا متفردا عن القرية وأهلها ومطلا من بعيد ومباشرة على البحر الأبيض المتوسط في كامل سعته. 
كما أنه في بعض الأحيان كانت تبدو من هناك بعض قمم وجبال الضفة الشمالية للبحر جهة الجنوب الأوروبي،وخاصة من إسبانيا حينما يكون الجو صحوا وخاليا من الرطوبة والغيوم. 
في حين وعند نفس الاتجاه تقريبا كانت تبدو قمة جبلية قبل الإطلالة على البحر يعلوها ويكسوها ضريح محاط بأشجار وارفة يحتضن وليا مشهورا في المنطقة يسمى بسيدي أحمد الفيلالي،وفي أسفله عند منطقة بوحمد و السطيحات كان هناك ضريح آخر لأحد الأقطاب الكبار وهو سيدي محمد البوزيدي رحمه الله تعالى وهو شيخ الشيخ المشهور والمتفرع عن الطريقة الدرقاوية : سيدي أحمد بن عجيبة رحمه الله تعالى. 

ما بين هذه المعالم الروحية والطبيعية كان والدي سيدي محمد قد اشترك مع عمي السعيد رحمه الله تعالى في إحياء أرض مواة كانت في حوزة جدي عند أسفل السفح،حيث الخضرة بين جبلين وواد دافق الصبيب وحلو المذاق يسمى ب:واد القنار،قد تفطن له بعض السياح فأصبحوا يقصدونه رغم بعد المشقة ووعورة الطريق إليه. 
عند هذا السفح وفي تلك الأرض الهادئة التي لا يخترق صمتها سوى تغريد الطيور أو نعيق البوم وعويل الذئاب مع نباح الكلاب، كل ذلك ممتزجا بخرير المياه وهدير الوادي وتذؤب الرياح مع تعانق الأغصان وهمسات الأوراق،كنا نجلس على ضوء المشكاة التقليدية المسماة بالكانْكي، فيتذاكر والدي وعمي عن قضايا فكرية وتاريخية متنوعة،وربما تطرقوا للحديث عن ابن سينا أو الفارابي والغزالي أو بعض الصوفية الآخرين من ذوي الشطحات كالحلاج والبسطامي مثلا. 
فكنت أستحلي هذا الحوار أيما استحلاء، بحيث كان يتسرب إلى وعيي وشعوري بصورة قوية ومنسابة سرعان ما يوجهني إلى النظر في السماء ورمق ذلك الفضاء الفسيح المرصع بالنجوم وتوارد الشهب بين الحين والآخر،ثم أمرر بصري نحو الغابة الصامتة والمتحركة بأهلها من صراصير وضفادع ،كل له لغته في التعبير والنشيد والتسبيح. 

فكان حينذاك منظر لا يمكن وصفه بالقلم، لما جمع من تناسقات و تناقضات لا تزيده إلا جمالا وكمالا. 
فالأحياء بجانب الأموات،والحيوانات بجانب الجمادات،والإنسان في خنادق الجان وتداخل الزمان والمكان!!! 
ولقد صدق من قال حينما عبر عن تصوره لهذا الوجود :ليس في الإمكان أبدع مما كان! فكانت نتيجة هذا التفكير حتمية والتعبير عنه ضروري ب"ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك"الآية. 

في هذه الأجواء وفي هذه المرحلة المبكرة من عمري؛ربما كنت قد ناهزت العاشرة أو الحادية عشر من عمري، مر خطاب سريع وعابر بين والدي وعمي ذكر فيه أنه يوجد في هذا الوقت رجل ولي صالح ذهب لزيارته بعض أصدقائه (لم أكن أعرف اسمه حينذاك والذي سيتبين فيما بعد أنه سيدي أحمد بن داود الذي سيصبح مقدم الطريقة في مدينة تطوان) قد حكى له - حسب دعواه-: أنه لما ذهب لزيارة هذا الولي كان يرى في الطريق على النصب التي تسجل عليها المسافات- اسم" الله " عوض الكيلومترات ! وأشياء أخرى لا أتذكرها جيدا. 

إلا أنه فيما أستحضره رغم انحسار ذاكرتي آنذاك وبعد الزمان بين الجلسة ولحظة الكتابة هاته هو تخصيصي ذهنيا هذا الولي بتخيل صورته ربما ستكون أقرب إلى الواقع منها إلى الخيال الوهمي والتشكيلي المحض، وهو ما بقيت أتذكره لحد الآن وإلى حين أن التقيت به،مما أثار مخيلتي على مبدأ الشعور عن بعد ولكن في صورته الروحية المجردة كما سنرى! . 
هذا الولي المذكور سيكون هو شيخي وأستاذي سيدي حمزة بن العباس القادري بودشيش -رضي الله تعالى عنه وأطال عمره ذخرا وملاذا لهذه الأمة. 
حتى لما رأيته في الواقع أحسست كأنني كنت أعرفه منذ زمن بعيد ودهر طويل،وأنه رجل ليس غريبا عن وعيي وإدراكي وعرفاني! 
إن هذه المسألة غريبة ووجيهة في الطريقة القادرية البودشيشية،لأنها قد حدثت لكثير من المريدين وصرحوا بها لسانا وحالا،أذكر نموذجا منها : 
ذلك أن أحد طلبتي الإندونيسيين لما جاء لأول مرة إلى زيارة الشيخ سيدي حمزة،فما أن رآه حتى أجهش بالبكاء ولم يعد قادرا أن يحدق بالنظر إليه،فسألته ما بالك يا هذا وكيف وجدت الشيخ في تصورك؟ 
أجابني في الحين:"إن هذا الرجل هو عينه الذي رأيته في المنام قبل أن آتي إلى المغرب!!! ". 
في هذا المكان من بلد جدي وفي تلك الفترة من حياتي كنت أعاني من بعض الاضطرابات النفسية الحادة،سبقتها مرحلة من التشوف الديني والورع المتقد والزائد عن الحد بالمناسبة مع سني،كما سبقتها هبوب رياح من الشكوك والوساوس(وخاصة وسواس الماء الذي يطرأ على البعض في الوضوء والمبالغة في إصباغه!) وبالتالي النفور من المجتمع والميل إلى النزعة الانعزالية المدمرة.! 
ففي البداية وعند التمييز كان لدي شغف بالحضور للصلاة في مسجد الحي الذي يسمى بالتوتة بمدينة تطوان،والذي كان مقصد أهله في الصلاة العادية وفي رمضان والأعياد غيرها من المناسبات الدينية. 
كما كان يعرف في بعض الأحيان زيارات لبعض الدعاة أذكر من بينهم من يسمون ب:رجال التبليغ الذين كانوا يقصدون المساجد العامة ويلقنون فيها مواعظ وتوجيهات محددة، منهم المغاربة وغيرهم من شرقيين وآسيويين،كالباكستانيين وغيرهم... 
في ذلك الوقت لم أكن أميز بين طائفة وأخرى أو مذهب من غيره، وإنما كان لدي أن كل من تكلم بلغة دينية وتظاهر بالتنسك والزهد وادعى التمسك بالكتاب والسنة فذلك هو القدوة والنموذج! 
كما أذكر أنني في ذلك الحين كنت أسمع المواعظ من أولئك الناس فأجهش بالبكاء وينتابني خوف وشوق إلى الله تعالى والسعي إلى ملامسة الحقيقة الدينية وعشق رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

في حين أن أولئك الدعاة كان يغلب عليهم المظهر والبساطة أو قل الطبع العامي وما إلى ذلك أكثر من مستواهم العلمي ودقتهم في الإقناع أو التواصل مع الآخرين بدون تكلف أو تصنع. 
فلقد كانوا خطابيين ومفسرين محدودين لبعض النصوص القرآنية في غالب الأحيان، كما كانوا في أغلبهم على ما أتذكر أناسا بسطاء وحرفيين وحتى شبه أميين وغيرهم. 

أما كعلماء فلم يكن منهم من هو ذا بال أو حضور قوي ومثير للانتباه أو الرأي العام المثقف والسياسي والاجتماعي حتى... 
من ثم تعقبت تحركاتهم وتابعت تجوالهم عبر الحي؛لكني كنت مازلت صغيرا، كما أنني لم أكن مستعدا لمصاحبة مثل هؤلاء النفر مع ما كان يبدو عليهم من نزعة تقشفية في الظاهر،أو التظاهر،وتميز في الكلام والهندام واللحى وما إلى لك . 
كل هذا لا يعني أن أولئك الناس كانوا الحافز الرئيسي لدي لتكثيف العمل الديني؛ وخاصة في الجانب التعبدي،وإنما كنت مدفوعا بالدرجة الأولى من داخلي دفعا لا يقاوم،كما أن قرب المسجد من بيتنا كان من ضمن العوامل الرئيسية في تأجيج هذا الشغف والزيادة في حدته.

د. محمد بنعيش

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق