آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

كتاب : رهان الأرواح في صحبة قطب الصلاح الشيخ سيدي حمزة القادري بودشيش

ثانيا : التحولات النفسية ومدعماتها الفكرية 


إذ فيما أذكر أنني ذات يوم كنت أقرأ القرآن الكريم في بيتنا،وفجأة هبت علي رياح من التشكيك والوسوسة على شكل تساؤلات جد عميقة ومركزة بالدرجة الأولى على العقل ووظيفته وبالتالي حكمه على قضايا الوجود والبداية والنهاية وطلب الأدلة عن خالق الكون وكيف هو…؟!!!
فلقد هجمت علي هذه التساؤلات فجأة ولم يكن لدي الاستعداد قائما للمواجهة،والسلاح مازال ضعيفا وغير قادر على مواجهة القوى الظلامية والوساوس الشيطانية بشتى تشكيلاتها ومناوراتها . 
كما أنني في ذلك الحين بدأت أشعر بالحرج والتحسر وضاقت علي الأرض بما رحبت،مع أن القلب بقي صامدا في اعتقاده ثابتا في فطرته لا تهزه الأهواء ولا تذؤبات الرياح، لأن العقيدة كانت ومازالت راسخة بحمد الله في الأعماق.

بحيث كادت أن تكون حالتي مشابهة تماما لأبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى في انتقاله من مرحلة الشك إلى اليقين وثباته على الأصول العقدية بالرغم من شكه في حواسه وعقله ومحيطه،كما يقول عن نفسه : 

"وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية إيمان يقيني بالله تعالى وبالنبوة وباليوم الآخر،فهذه الأصول من الإيمان كانت رسخت في نفسي لا بدليل معين محرر بل بالأسباب وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها "(المنقذ من الضلال : ص45). 

فلم تكن تلك الحالة حينئذ تمثل شكا في الأصول كما ذكر الغزالي وإنما كان هناك استحثاث للعقل غير إرادي للاستدلال عليها من باب "ولكن ليطمئن قلبي". 
هنالك ابتدأت لدي مرحلة الأرق والتزام الصمت والانزواء،فأنا مازلت في مرحلة متقدمة من المراهقة أعاني من تغيرات وانتقالات عضوية ووظيفية و نفسية، وتتجاذب شخصيتي عدة نوازع وضغوطات وإرهاصات متنوعة نحو التغيير والتطور السلوكي والنفسي وكذا البدني. 
لكن المهم عندي كان ليس هو النمو الغريزي والتحولات البيولوجية المتعارف عليها ...وإنما كان هو هذا الهاجس المؤرق والمنغص لأمني الباطني!الذي لم أستطع أن أصرح به أو أعرضه على من هو أكبر مني سنا ليحلله أو يصف لي السبيل الأنجع لتفاديه أو التخفيف من حدته. 
فهذه نقطة مهمة ينبغي التوقف عندها قليلا؛وذلك أن هم مثقفينا ومنظري عصرنا لم يولوا الاهتمام في هذه المرحلة إلا لما يعرف بالتغيرات الجنسية لدى المراهق،ومن ثم شرعوا بالتطبيل و التزمير نحو ضرورة إدراج الثقافة الجنسية في المناهج التعليمية، كأنها هي محور الوجود الإنساني في زعمهم!. 
بينما وظيفتها ليست سوى مظهر جزئي من مظاهر النمو عند الطفل المراهق،في حين قد نسوا أو تناسوا المشكل العقدي والفكري الأهم والخطير،الذي إما أن يقوده نحو الفلاح الأبدي أو الدمار النهائي الذي لا يستطيع معه جبر كسوره مستقبلا إن هو أهمل أو ضلل! 
هذا التوجه المهمِّش للأهم ،مع الأسف،يبقى هو الغالب على غالبية مثقفينا، من خلال الأفكار المروجة لإقصاء الروح والعقل المستنير من الحضور وحسن التدبير. 
أيضا،مما زاد في معاناتي النفسية والفكرية المؤرقة هو عزلتي داخل بيتنا وفي أحضان قرابتي وعائلتي ،إذ بحكم أنني أكبر إخوتي سنا فقد انزويت في غرفة منعزلة عند سطح المنزل أطالع فيها وأنام وفي بعض الحيان أتناول وجباتي هناك. 
كما كنت مولعا بسماع الراديو وخاصة تتبع الأخبار الدولية من خلال إذاعة لندن وغيرها... 
فكنت في بعض الأحيان حينما تؤرقني الأفكار التي لم أجد لها جوابا شخصيا ألجأ إلى مكتبة والدي رغم بساطتها لأبحث عن الجواب،كان من أهم الكتب التي اهتمت بمطالعتها حينئذ مؤلفات عباس محمود العقاد رحمه الله تعالى وخاصة كتابه : "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه " . 

أما مؤلفات أبي حامد الغزالي فقد قرأت عنها بشكل غير مباشر ثم بدأت أكون مكتبتي منها فيما بعد. 
هنا أتذكر أن أهم كتاب قرأته عن الغزالي كمرجع ودراسة هو"ثورة الفكر أو مشكلة الشك عند الغزالي "لأحد الكتاب التونسيين فيما أظن...ولست متيقنا هل هذا الكتاب قرأته قبل هذه المرحلة الحرجة من حياتي الفكرية والنفسية أم كان بعدها ؟. 
المهم،هو أنه قد أثار فضولي الفكري!حتى كنت أقرأه على إنارة شبه منعدمة لشدة شغفي بالموضوع ولتعقيده وضعف فكري عن تناوله. 
لكنني فيما بعد سأضع يدي على كتاب المنقذ من الضلال لأبي حامد الغزالي الذي كان أسهل عرضا وأوضح أسلوبا،وبالتالي قد أثر في شخصيتي تأثيرا كبيرا ونبهني بقوة إلى أهمية التصوف وسلوك طريقته لمن يريد التخلص من الشك والوساوس الفكرية والعقد السلوكية ... 
فكان أن حدا بي إلى البحث في كتب الصوفية بصفة عامة والتعلق بأحوالهم وسلوكم كفرسان متخصصين في الميدان!... 
في هذه المرحلة (التي كانت بالتحديد عند بداية دراستي في الإعدادي) بدأ التحول والتغير يطرأ علي بقوة وعنف سواء على حالتي النفسية أو السلوكية وكذا العلمية. 
فقد كنت في الابتدائي من التلاميذ المجتهدين و النشطاء المواظبين على دروسهم وفروضهم ،كما كانت لدي ميزة الاستظهار والتحدي الطامح إلى تخطي كل العقبات كحال أبي فيما ذكرت عنه ،حتى إنني لما أسأل ماذا ستكون في المستقبل؟كنت أجيب ب:أستاذ

فما أن التحقت بالثانوية (الإعدادي)حتى انهارت تلك الطموحات وتوالت الصدمات والكدمات وأخذ سلوكي يتمظهر بأشكال من العنف والنزعة إلى المشاجرة والتحدي الثوري -إن صح التعبير- قد كانت لها أسباب وعوامل.منها:الأسرية وعنف الأحياء الذي كان طاغيا آنذاك، إضافة إلى عنف رجال التعليم أنفسهم؛خاصة وأن أساتذة اللغة الفرنسية والعلوم الرياضية والطبيعية والفيزياء وغيرها كانوا من الفرنسيين؛أكثرهم من المجندين والمجتازين للخدمة المدنية على حساب التعليم في المغرب. 
كما كان الكثير منهم ما زال يحمل حقدا استعماريا لا يكاد يخفيه ويبرز على سلوكه لاشعوريا،من خلال العجرفة والعقوبات التي كانوا يوقعونها على التلاميذ بمبرر ودونه. 
أسوأ من هذا، فقد كان من أسهل مبادئهم صفع أولاد المغاربة ! لأنهم كانوا يوهمون أنفسهم فيما أظن بأنهم ما يزالون في مرحلة الاستعمار! هذا السلوك لم أكن لأقبله يمارس علي بسهولة ،بحكم تكويني ونفسيتي المتقدة نحو الحرية والتطلع إلى سعة الفضاء والتفكير الواسع ذي الأبعاد الصوفية
بحيث قد حدثت لدي مصادمات عدة مع بعض هؤلاء لحد التشابك بالأيدي،ولغاية التواطؤ الجماعي من جهتهم رجالا ونساء على وضعي في اللائحة السوداء من حيث التنقيط والمراقبة المستمرة ،وبالمقابل وضعتهم في نفس اللائحة من حيث افتعال الشغب في القسم وتحريض التلاميذ على العصيان. 
بل كنت أتزعم الإضرابات وأحاول مهاجمة المؤسسة التي كنت أدرس فيها والتي كان والدي نفسه يدرس بها،تسمى بثانوية التقنية الجديدة،ثم ستتحول فيما بعد إلى ثانوية الإمام الغزالي !!!كفأل وتناسق مع الموضوع الذي أكتب فيه ! 
هذا التغيير في الاسم بهذه الصورة لم أتنبه إليه إلا حين كتابة هذه السطور،للمناسبة بين الثانوية وأبي حامد الغزالي وانشغالي بكتبه وأفكاره في مرحلة مبكرة. 
بحيث إنني لما توالت علي الإخفاقات في متابعة المقررات الدراسية كنت أتركها وأتفرع للدراسة الفكرية العميقة،خاصة كتب العقاد المشار إليها سابقا وطه حسين في مجموعته الإسلامية ك:مرآة الضمير والوعد الحق ومن بعيد وحديث الأربعاء، وبالأخص كتابه الأدبي وسيرته الذاتية:"الأيام"التي كان لها الأثر الجيد في تحسين أسلوبي الإنشائي الذي كنت متفوقا فيه بشكل ملفت للنظر!!! 
لكن الذي كنت منشغلا به جدا أكثر مما ذكرت هو كتب أبي حامد الغزالي،لغاية أن بدأت أكون مكتبي الخاصة رغم خصاصتي المادية،وذلك من خلال اقتناء أهم مؤلفاته قبيل وبعيد التحاقي بالطريقة القادرية البودشيشية
كان على رأسها كتاب:الاقتصاد في الاعتقاد،الذي لازلت احتفظ بنسخته لدي مع طبعة مكتبة الجندي منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا،وأيضا كتاب تهافت الفلاسفة ومعيار العلم ومنهاج العابدين وميزان العمل والمنقذ من الضلال طبعا ! . 
فكتاب "الاقتصاد في الاعتقاد" كنت أجد فيه لذة النظر والاستدلال ،وأعيد القراءة لموضوع دليل الحدوث وإثبات النبوة ورسالة المعرفة المدرجة في الطبعة،رغم أنني لم أكن أفهم كثيرا من المصطلحات المعقدة فيه ولم يتيسر لي فهمها إلا بعد أن زاولت التدريس بالجامعة وبدأت أحلل النص وأستخلص معانيه لتفهيمه لطلبتي. 
فكان هذا الكتاب يهدئ نسبيا من روعتي وشغفي الفكري لتعميق الأدلة ووضعها في إطار رياضي ومنطقي محسوب العناصر والمصطلحات ومضمون النتائج وحاصرها. 
من ثم فقد كنت أستمتع بملازمة قراءته في تكامل مع كتاب تهافت الفلاسفة، الذي يعتبر امتدادا وتطبيقا عمليا للقواعد الكلامية في تكسير شوكة الفلاسفة وبيان عجزهم. 
أما معيار العلم فلم أكن باستطاعتي فهم مصطلحا ته،ووقفت عند مفهوم المطابقة والتضمن والالتزام دون مجاوزة! 
لكن منهاج العابدين لما قرأته وجدت في ثناياه أفكارا ربما توافق اتجاه الغزالي أو تخالفه،ولهذا فقد كانت تأثيراته متأرجحة بين الإيجابية والسلبية لما تضمنته العقبات التي عنون بها المواضيع كعقبة :التوبة والعلم والبواعث و القوادح ،وبالتالي التزهيد بأسلوب ربما قد يؤدي إلى التواكل والانعزالية المتطرفة،وهذا ما جعل بعض الكتاب يشكك في نسبة الكتاب إلى الغزالي!. 
بهامش هذا الكتاب كان: بداية الهداية،الذي شغلني منه القول في آداب الصحبة،وهو كتيب قيم وموضح لبعض قواعد الصوفية الرئيسية من أهمها: الصحبة ،كما أورد أبياتا تنسب إلى سيدنا علي كرم الله وجهه ورضي عنه: 

فلا تصحب أخا الجهل فإياك وإياه 
                        فكم من جاهل أردى حليما حين واخاه 
يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ماشاه 
                      كحذو النعل بالنعل إذا ما النعل حاذاه 
وللشيء من الشيء مقاييس وأشباه 
                  وللقلب على القلب دليل حين يلقاه 

فمثل هذه النصوص وما لها من صلة بالزهد قد تؤسس لمبدأ السلوك والصحبة ومن جهة أخرى حينما لا تهضم جيدا قد تؤدي إلى العزلة والانطوائية والنظر إلى الناس بعين الريبة والشك،وذلك مما قد يفهم من هذه الأبيات: 

ارض بالله صــاحـبا         وذر الناس جانبا 
صادق الود شــاهدا          كنت فيهم و غائبا 
قلب الناس كيف شئ        تـجدهم عـقـاربا! 

لكن مما زادني ميلا إلى الشق الانعزالي أكثر منه الاندماجي هو تناولي لبعض الكتب التي لا تعطي تعليلا للمسألة كما هو الشأن في كتب الغزالي وغيره من الكتاب العلماء والمفكرين الموضوعيين. 
أذكر من بينها: "تنبيه الغافلين"،الذي لازلت أحفظ أبياتا منه -فيما أتذكر- كانت حاسمة في صرفي نحو العزلة و الانطوائية داخل المجتمع ورؤية الناس عقاربا ،كما مر التعبير. 

هذه الأبيات تقول : 
راحتي في عزلتي            وبلاءي كله من رفقتي 
إذا عاشرت قوما مدة         أبذل عيبي وأبدو ذلتي 
ما انقطاعي عنهم من زلل     بل وجدت راحتي في عزلتي!

فكانت هذه النصوص مساهمة بفعالية في اعتزالي داخل البيت وخارجه ولجوئي إلى التأمل الفردي مما سبب لي انقباضات نفسية وخوفا من الوهم زائد على اللزوم . 
بل قد ترتب عنه وسواس في النظافة والمكان والإنسان،ومع هذا فلا أحد يشعر بالحالة التي أمر بها وأتخبط في أوحالها واستعصائها.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق