آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كشف الغطاء في طريق الصوفية / ابن خلدون (16)

المجاهدة الثالثة : مجاهدة الكشف والاطّلاع، وهي إخمادُ القُوى البشريَّة وخِلع الصفات البدنية بمنزلة ما يقع للبدن بالموت محاذاة شطر الحق باللطيفة الربانية لينكشف الحجابُ، وتظهر أسرار العوالم والعلوم واضحة للعيان وهو العلم الإلهامي الذي قدمنا أنه يحصل بالتصفية.

ولهذه المجاهدة عند القوم شروط :

فالأول : حصول التقوى الذي قدمنا شرحُ مجاهدتها، فإنها رأس العبادة، وباعثُها أوَّلُ درجات النعيم وهو النجاة. قال الجريري : "من لم يُحَكِّم بينَهُ وبينَ الله التقوى والمراقبة لم يصل إلى الكشف والمشاهدة".

الشرط الثاني : حصول الاستقامة التي قدّمنا أيضاً شرح مجاهدتها. قال الواسطي : "الخصلة التي بها كمُلتِ المحاسنُ : الاستقامة". ووجه اشتراطها في هذه المجاهدة من جهة المعنى أن القلب في تصفيته، وكشف حجابه، وتجلي الحقائق فيه مثاله : الأجسام الصقيلة إذا انطبعت فيه الصوَّرُ المقابلةُ بها لكن انطباعُ الصُّور في الأجسام الصقيلةُ ليس على أي وجه اتفق، بل إنما تنطبع الصور انطباعا صحيحاً على ما هي عليه بشرط أن يكون الجسم الصقيلُ على شكل الدائرة التي تتساوي فيها الخطوط الخارجةُ من مركزها إلى محيطها، وحينئذ تنطبع فيها الصوَّرُ على ما هي عليه في نفسها، وأما إذا كان الجسم الصقيل مستطيلاً أو مربعاً أو مقعراً أو محدباً فلا تنطبع فيها الصور على ما هي عليه في نفسها، بل تنطبع على حسب ما هو عليه المقابل، وتختلف باختلافه، فكذلك القلب إذا اتصف بالاستقامة فكانت نسبة الأفعال الصادرة عنه أخداً وتركاً نسبة واحدة، كان بمثابة سطح الدائرة فتتجلّى فيه صور الموجودات وحقائق المعلومات على ما هي عليه تجليًّا صحيحاً فيكون الإدراك حقًّا والعلم تامًّا، وإن لم يتّصف القلب بالاستقامة واختلفت نسبة الأخد والترك في الأفعال إليه، فإن كان مائلاً عن الاستقامة بالنسبة إلى بعضها، وبعيداً عن الاستقامة بالنسبة إلى بعضها، وبعيداً عن الاستقامة بالنسبة إلى الطرف الآخر كان بمثابة الجسم الصقيل المستطيل او المربع أو المقعر أو المحدب، فيكون القبول الصحيح فيه مفقوداً، فتتجلى فيه الحقائق على ما هو عليه لا على ما هي عليهن فلا يظفر إلا بالتعب والحرمان. 

ولهذا نجد كثيراً من طالبي هذا الكشف يقدمون عليه قبل التمكن في الاستقامة ويكون قد سبق إلى قلوبهم شيء من الآراء الفائلة، ولم يسبق فتتجلى لهم الحقائقُ على ما عندهم، أو على خلاف ما هي، فيرجعون إلى الإباحة وتعطيل الشرائع والزندقة المحضة، أعاذنا الله.

فإذن الاستقامة شرط في هذا الكشف المفضي إلى العلم الإلهامي الذي هو تجلّي الحقائق في القلب على ما هي عليه في نفس الأمر من غير خلل ولا انحراف. وأما الكشف الذي هو رفع الحجاب عن القلب كيفما اتفق فقد يحصل بالتصفية عن الأغيار ورقّة القلب بالجوع والسهر من غير شرط استقامة، ولهذا يحصل الكشف لكثير من أهل الملل المخالفةن وكذلك لأهل السيمياء المرتاضين في كشف الحجاب لاستنزال روحانية الأفلاك، والتصرف في عالم الطبيعة بمعونة منها، فلا تتجلى لهم حقائق المعلومات على ما هي عليه، بل على ما هي عندهم، فلا يظفرون إلاّ بالخسران المبين.

الشرط الثالث : الاقتداء بشيخ سالك قد خبرهذه المجاهدات، وقطع بها طريق الله، وارتفع له الحجاب، وتجلّت له الأنوار، فهو يعرف أحوالها ويَدْرِجُ المريد في عقباتها حتى تتاح له الرحمة الربانيّة، ويحصل له الكشف والاطّلاع، فإذا ظفر بالشيخ فليقلده أمره، وليهتد بأقواله وأفعاله، ويتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ البحر بقائده، ويلقي نفسه بين يديه كالميت بين يدي الغاسل، ويعلم أن نفعه في خطأ شيخه أكثر من نفعه في صواب نفسه.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية