آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

كشف الغطاء في طريق الصوفية / ابن خلدون-27

الرأي الثاني :

رأي "أصحاب الوحدة"، وهو رأي أغرب من الأول في مفهومه وتعلقه.

ومن أشهر القائلين به ابن دهاق، وابن سبعين، والششتري وأصحابهم، وحاصله - بعد إنعام النظر والخوض فيما خاض فيه غيرهم في الواحد وما صدر عن الواحد - أن الباري جل وعلا هو مجموع ما ظهر وما بطن، وأنه لا شيء خلاف ذلك، وأن تعدد هذه الحقيقة المطلقة، الآنية الجامعة التي هي عين كل آنية، والهوية التي هي عين كل هوية إنما وقع بالأوهام : من الزمان، والمكان، والخلاف، والغيبة والظهور، والألم، واللذّة، والوجود، والعدم، قالوا: وهذه إذا حققت إنما هي أوهام راجعة إلى أخبار الضمير، وليس في الخارج شيء منها، فإذا سقطت الأوهام صار مجموع العالم بأسره، وما فيه واحدا، وذلك الواحد هو الحق، وإنما العبد مؤلف من طرفي حق وباطل، فإذا سقط الباطل -وهو اللازم بالأوهام– لم يبق إلا الحق، وارتكبوا في الشريعة ومتشابهها مرتكبات غريبة، وينفرد عندهم بسر الوجود المكتوم من بلغ درجة العارفين، وهم أهل التحقيق، والتحقيق يطلقونه على هذا العلم، وأن الأنبياء والأولياء علموه وخصّوا من رأوه أهلاً له.

والدرجات عندهم أولها : الصوفي للتجريد، ثم المحقق لمعرفة الوجود، ثم المقرب وهو الذي اجترأ بالعين من غير غيبة عن الأثر، وزعم عبد الحق في بعض كتبه أن هذا الرأي محدث بقوله : "وهذا الذي نريد أن ننبه عليه هو مما لم يسمع في عصره، ولا قيل إنه ظهر في دهره، ولا مما دون، أو علم في فلاة ولا مصر"، ثم قال وأكذب بقوله : "وهو مأخود من كلام الله ورسوله"، ثم نشأ عن الخوض في علم المكاشفة عند أهل هذا الرأي من الكمال الأسمائي الذي كانت مظاهره أرواح الأفلاك والكواكب، وأن طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء والأكوان من لدن الإبداع الأول، تنتقل في أطواره، وتعرب عن أسراره، فحدث لذلك علم أسرار الحروف، وهو علم لا يوقف على موضوعه، ولا تحاط بالعدد مسائله، تعددت فيه تواليف البوني، وابن العربي، وغيرهما ممن اتبع آثارهما. وحاصله عندهم تصرف النفوس الربانية في عالم الطبيعة بالأسماء الحسنى، والكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار السارية في الأكوان، ثم اختلفوا في سرِّ التصرّف الذي في الحرف بم هو ؟ فمنهم من جعله المزاج الذي فيه، وقسَّم الحروف بقسمة الطبائع إلى أربعة أصناف كما للعناصر، واختصت كل طبيعة بصنف من الحروف يقع التصرف في طبيعتها فعلاً وانفعالاً بذلك الصنف، فتنوعت الحروف بقانون صناعي يسمونه التكسير إلى نارية وهوائية، ومائية وترابية، على حسب تنوع العناصر، فالألف للنار، والباء للهواء، والجيم للماء، والدال للتراب، ثم كذلك على التوالي من الحروف والعناصر إلى أن تبعد فيعين لعنصر النار حروف سبعة : الألف والهاء والطاء والميم والفاء والسين والذال. ويعين لعنصر الهواء سبعة أيضاً : الباء والواء والياء والنون والضاد والتاء والظاء. ويعين لعنصر الماء سبعة أيضاً : الجيم والزاي والكاف والصاد والقاف والثاء والغين. ويعين لعنصر التراب سبعة أيضاً : الدال والحاء واللام والعين والراء والخاء والشين.

فالحروف النارية لدفع الأمراض الباردة، ولمضاعفة قوة الحرارة حيث تطلب مضاعفتها، إمَّا حسًّا أو حكماً كما في تضعيف قوى المريخ في الحروب والقتل والفتك، والمائية أيضاً لدفع الأمراض الحارَّة من حميات وغيرها، وتضعيف القوى الباردة حيث تطلب مضاعفتها حسًّا أو حكماً، كتضعيف قوة القمر وأمثال ذلك.
ومنهم من جعل سرّ التصرُّف الذي غي الحرف للنسبة العددية، فإن حروف "أبجد" دالة على اعدادها المتعارفة وضعاً وطبعاً، فبيَّنها من أجل تناسب الأعداد تناسب في نفسها أيضاً، كما بين الباء والكاف والراء لدلالتها كله على الاثنين كُلٌّ في مرتبته، فالباء على اثنين في مرتبة الآحاد، والكاف على اثنين في مرتبة العشرات، والراء على اثنين في مرتبة المئين، كالذي بينها أيضاً وبيَّن الدال والميم والتاء لدلالتها كلها على الأربعة، وبيَّنَ الأربعة والاثنين نسبة الضعف، وخرج للأسماء أوفاق كما للأعداد، يختص كل صنف من الحروف بصنف من الأوفاق الذي يناسبه من حيث عدد الشكل وعدد الحروف وامتزاج التصرف من السر الحرفي والسر العددي لأجل التناسب العددي بينها.

فأما سر هذا التناسب الذي بين الحروف وأمزجة الطبائع، أو بين الحروه والأعداد فأمر عسير على الفهم، إذ ليس من قبيل العلوم والقياسات، وإنما مستنده عندهم الذوق والكشف. قال البوني : "ولا تظننَّ أن سرَّ الحروف مما يتوصل إليه بالقياس العقلي، وإنما هو بطريق المشاهدة والتوفيق الإلهي".

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق