آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

منازل السائرين والواصلين : الإيمان

منازل السائرين والواصلين : الإيمان


وأمّا منازلُ الإيمان، فهي ثلاثةٌ :


أوَّلُهَا : الإخلاصُ، وهو إخراج الخَلق من مُعاملةِ الحقِّ. وهو على ثلاثة دَرَجات : إخلاصُ العوامِ؛ وهو العَمَلُ لله بقَصْدِ الثَّوابِ، ودَفْعِ العقاب، دُنْيَا وأُخرَى. وإخلاصُ الخواصِّ، هو العملُ لله على نَعْتِ المحبَّةِ والإجلالِ. وإخلاصُ خواصِّ الخواصِّ وهو العملُ بالله على نعتِ الأدَبِ، وإظهارؤ العبودية.

وثانيها : الصِّدْقُ، وليس المرادُ به هنا صِدْقُ اللِّسان، وإنَّما المُرادُ صِدْقُ الجَنَانِ بتصفية مَشْرَبِ التَّوحيد، في مُعاملةِ الوَاحدِ الحقِّ. وذلكَ بِتركِ الحُظُوظِ واللُّحوظِ، والفرق بين الإخلاصِ والصِّدق، أن الإخلاص يختصُّ بنفي صفاتِ الإشراكِ، والصِّدْق يختصُّ بنَفْي صفاتِ النِّفاقِ.

و قال بعض العارفين : الصِّدقُ عمادُ طريق السَّالكين، وبابُ حَضْرَة العارفين. قال : وإن كان الإخلاص عبارة عن تصحيح عقْد التَّوحيد بالتَّنزُّه عن دَناءَة الشِّرْكِ فالصِّدقُ له بمنزلة التَّشْحرة للذَّهب، ينْفي عنه عَوارض النِّفاق، ويُصفِّيهِ من كَدُراتِ الأوهامِ، وذلكَ أنَّ الإخلاص لا يَخلُو من مُداهَنةِ النَّفْسِ، ومُسامَحة الهَوَى، والصِّدقُ يُذْهِبُ المُداهنات، ويرفعُ المُسامحات، إذ لا يَشُمُّ رَائحة الصِّدق مَنْ دَاهَنَ نفسَهُ أو غيرَه، فيمَا دَقَّ أو جَلَّ، وعلامته : اسْتوَاءُ السِّرِّ والعلانيَّة بحيثُ لا يَسْتَحْيِي من شَرِّهِ ولَو كُشفَ لجميع الخَلْقِ ولا يُبالي بسُقوطه عن عَيْنِ الخَلْقِ قد استوَى عنده المَدْحُ والذَّمُّ والعِزُّ والذُّلُّ.
والصِّدقُ على ثلاثة طبقات : صِدقُ أهل البداية، والوسط، وأهل النهاية. فأما صِدق أهل البداية، فهو رَفْضُ الحُظوظِ العاجلَةِ والآجِلة في مُعاملَةِ الحقّ، وهذا هو الصِّدق في العُبودية. وأما صدق أهل الوَسَطِ، وهم السَّائرون، فهو ترْك اللُّحُظ والالتفات إلى غير المَحْبُوبِ. وأمَّا صِدْقُ أهلِ النِّهاية فهوَ رَفْضُ رُؤْيَة السِّوى بتحقيق توحيد المولى، فالظاهر عبودية والباطن حرية وبالله التوفيق.

وثالثها : الطُّمَأنينَة؛ وهي سُكُون القلب عند التقلُّب والاضطراب إلى ثَلج النَّفسِ وشُهُودِ مُسَبِّبِ الأسباب، وهو على ثلاثة طبقات : طُمَأنينة ذِكْرِ، وطُمَأنينة قُرْبِ، وطُمَأْنِينة شُهودٍ. فطُمأنينة ذكرٍ، هو طُمأنينة القلب بذِكرِ الله، وهو ناشئٌ عن شُهُود توحيد الأفعالِ. قال تعالى : {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:28]. وطُمأنينة قُرْبٍ، هو تحقيق المُراقبة من القلبِ بالأُنْسِ من الحبيب. ومناجاة القَريب، وهو ناشئٌ عن شُهودِ توحيد الصِّفات. وطُمأنينة شُهودٍ، وهو لأهل التَّمكين، والرُّسوخ في اليقين، وهو ناشئٌ عن تحقيق الذَّاتِ.

قال في البغية : وقد تقدَّّم لنا أن توحيد الأفعال، وتوحيد الصفات، وتوحيد الذَّات. كلُّ ذلك راجعٌ إلى اختلافِ مراتبِ التوحيدِ. وإشارة إلى أنَّ بعض هذه المراتبِ يَسْبِقُ بَعضاً في وُرُودِ معارِفِ ذلك السَّالك على المعارف الذَّوقية؛ لأنَّ الإيمان لا يقومُ إلاَّ بعلم اليقين الذي لا شكَّ فيه، إنَّ الله واحدٌ في أفعالِهِ، واحدٌ في صِفاته، واحدٌ في ذاتِهِ، والعلمُ بهذا لا يتبعَّضُ ولا يَتجزَّأ. إنما المُراد بأقسام التَّوحيد الثلاثة أنَّ معارفها ذوقيَّة، لا ينالها السَّالك دفعةً واحدةً، لكن يَرِدُ عليه أوَّلاً معارف معاني أفعالهِ تعالى، ثم يرد عليه ثانياً معاني صفاته تعالى، غير معارفِ أفعالهِ. كما أنَّ معارف ذاتهِ غير معارف صِفاتِهِ، لكنَّهُ بالعُثُورِ على معارِفِ الصِّفات يتهيَّأُ لنَيل معارف الذَّاتِ، والسالكُ إذا خرقَ حجاب هَواهُ ينفتِحُ له شُعاعٌ من أنوار التوحيد يُدرك به آثار أفعال الله تعالى في مجاري حُكمها، وإبداع تصاريفها، فإذا تمكَّنَ في ذلك ورَسَخَتْ قدمه فيه، انفتحتْ له أبوابٌ يطَّلِعُ منها على حقائق معاني صفاتهِ بالعِلمِ اللَّدُني، فإذا تمكَّنتْ أسرار ذلك من الرُّوحِ أورَثَتْ الرُّوح ثباتاً وأكسبَها قوَّة فأشرقتْ على البحر الزَّاخرِ وبقَدْرِ تبَحْبُحِهِ فيه يكون غَوْصُهُ على يواقيت أسراره وجواهِرِ حقائقِهِ، وعند ذلك يَفْنَى الوجود بأسرِهِ ولا يبقى غير موجوده القديم. انتهى المراد منه.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق