آخر الأخبار

جاري التحميل ...

منازل السائرين والواصلين : الإحسان

منازل السائرين والواصلين : الإحسان

وأما منازلُ الإحسان، فهي ثلاثة أيضا :  


أوَّلها : المُراقبة، وهي كما قال بعضهم: هي مراعاة السر بملاحظة الحق، مع كل خطرةٍ، فمحلُّ المُراقبة من الإحسان كمحلِّ الإخلاص من الإيمان. ولما نال القلبُ بالطُّمأنينة من العمارة بالله ما قيلَ للرُّوح : قد آن لك أن تصفو مشاربكَ، وتقرب منك مطالبكَ، فراقِب مولاكَ عساهُ يتولّاكَ، فتظفر بمشاهدته فهو حاضرٌ معك، قريبٌ منك، إن صفَا سِرُّك فهو موضِع نظر الله عزَّ وجلَّ.
وقال بعض العارفين : (مَن لم يحكم بينهُ وبين الله تعالى المراقبة لم يصل إلى الكشفِ والمُشاهدة).

وثانيها : المشاهدة، وهي كما قال شيخنا : شهود العظمة بالعظمة. أي بحيث يَفْنَى من لم يكُن ويَبقَى من لم يَزَل. فما شاهدَهُ أحدٌ سِواهُ، ولا عرفَ الله إلّا الله، قال الله تعالى : { لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } [الأنعام:102] أي الحادِثة، إنما تدرِكُهُ الأبصارُ القديمة. وفي الحديث القدسي : (وَمَا يَزالُ عَبْدِي يتقرَّبُ إِلى بالنَّوافِل حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذا أَحبَبْتُه كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ بِهِ، وبَصره الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ الَّتي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ الَّتِي يمْشِي بِهَا) وفي رواية أخرى : (فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُه) فحيث يتولَّى العبدُ مولاه كان أمرُهُ كله بالله، فينتقل من لام الجرِّ إلى باءِ الجرِّ. أي ينتقل من العمل لله، إلى العمل بالله. وفي هذا المعنى قال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه : (ما رأَيتُ شيئاً إلأّ رأيتُ البَاء مكتوبة عليه) وقال الشبلي رضي الله عنه : (أنا النّقطة التي تحتَ البَاءِ). يُشيرُ إلى أنه به ظهَرَ سرّ الوحدة التي كانت محجوبة في خزائنِ الغُيُوبِ. والله تعالى أعلم.

وثالثُها : المعرفة، والمُراد تمكين المشاهدة من القَلْبِ، والخُروج من سُكرِ إلى صفاءِ المعرفةِ، والخروج من عينِ اليقين إلى حقِّ اليقينِ.
وقال بعضٌ : المعرفةُ قُرْبٌ دائِمٌ، وقلبٌ هائِمٌ، فلا يشهَد إلّا مولاه ولا يعرِّج على أحد سواهُ.

وقال الجنيد رضي الله عنه في وصفِ العارفِ :  (عَبْدٌ ذاهِبٌ عَنْ نَفْسِهِ ، مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ َرِّبِه ، قَائِمٌ بِأَداءِ حَقِّهِ ، نَاظِرٌ إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ ، أَحْرَقَتْ قَلْبُهُ أَنْوَارَ هِدَايَتِهِ، وَصَفَا شَرَابُهُ مِنْ كَأْسِ وِدِّهِ، تضجَلَّى لَهُ الجَبَّار عَنْ أَسْتَارِ غَيْبِهِ، فَإِنْ تَكَلَّمَ فَبِالله، وَإِنْ سَكَتَ فَمِنَ الله، وَإِنْ تَحَرَّكَ فَبِأَمْرِ الله، وَإِنْ سَكَنَ فَمَعَ الله، فَهُوَ بالله ولله ومعَ الله، ومنَ الله وَإِلَى الله).

وقال في بُغْيَةِ السَّالِكِ : "اعلَمْ نَوَّرَ الله قلبي وقَلْبَك بِأَنْوارِ المعَارِفِ وحملنا على مِنْهَاج كل وليٍّ عارف، أنَّ المعرفة هي نهاية مقام الإحسان، وآخر منازلهِ، قال الله تعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الأنعام:91] أي ما عرفُوهُ حق معرفته. وقال الله تعالى : {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83]. وقال صلى الله عليه وسلم : (إنَّ دِعَامَةَ البَيْتِ أَسَاسُهُ، ودِعَامَة الدّين المَعْرِفَة بالله تعالى). ونعني المعرفة هنا، تمكينُ حال المُشاهدة واسْتِصْحابِها مع إقامةِ العَدلِ وملازَمةِ الحكمَة، وهذا غبر ما يطلقه أهل الفقهِ من أنَّ المعرفة هي العلم بالرُّسوم، وإن كان للمعرفة عموم يصح أن تُطلق على العِلم من حيثُ هو، لكن أخصّ مقتضياتها المعرفة بالله تعالى، بمعاني أسمائهِ وصفاتِهِ من غير تفريق بين الصِّفَة والذَّات، وهي المعرفة الصَّادرة من عَيْنِ الجَمْعِ وتُعرب عن الخلاص التام وتفصح عن دوام السّر مع الله، وتتضمَّن حديث الحق إيَّاه، بتصريف أسراره فيما يجري به من تصاريف أقداره. وإذا تأمَّلت هذه المعرفة وجدتها تشمل جميع المعارف والعلوم. وقد قالوا في حدِّ المعرفة إحاطة بعيْنِ الشيء كما هُوَ. والخَلق فيها فِرَقٌ.

ثم قال في الفرق بين العالِم والعارِف : "العالِمُ : يُقْتَدَى بِهِ. والعَارِفُ يُهْتَدَى بِهِ".

وقالوا : العالِم دون ما يقول والعارفُ فوقَ ما يقول. وحال العارف فوق نهاية المُشاهدة ولا نهاية للعارف إنما ارتقاؤه أبداً إلى ما لا نهايَةَ لَه، لأنَّ معارف الله عزَّ وجلَّ لا تتناهى، والعارف يَرقَى إلى المَعارِفِ مُرُور أنفاسه، وتَوالي زمانِهِ. وقد قال بعضهم : "المعرفةُ أوّلُها قولُكَ : الله. وآخرها ما لا نهاية له". فَحسبُنا الإشارة إلى مبادئها والعَجْز عن الكشفِ عن كثنْهِ نهايتها.


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية