آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

المعالم الصوفية في قصة سيدنا موسى والخضر

المعالم الصوفية في قصة سيدنا موسى والخضر


قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرًا؟ قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً. قال: وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسياناً. قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر!
ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلامًا يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فأقتلعه بيده فقتله. فقال له موسى: أقتلت نفسًا زكية بغير نفس؟ لقد جئت شيئًا نكرًا! قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا؟ قال: وهذه أشدُّ من الأولى- قال: إنْ سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرًا.
فانطلقا، حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارًا يريد أن ينقض- قال: مائل- فقام الخضر فأقامه بيده فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرًا. قال: هذا فراقُ بيني وبينك..- إلى قوله-: (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً).
فقال رسول الله: (ودِدْنَا أنَّ مُوسَى كانَ صَبَرَ حتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِن خَبَرِهِما).

ولنفرغ الآن لاستقاء المعالم الصُّوفية واستنباط المعطيات التي تؤصل جوانب التحقق والسلوك الصوفي الرفيع في إطاره القرآني المحمدي لدحض تلك المزاعم المارقة التي تنفي عن التصوف شرعيته الإسلامية وهويته القرآنية وأصالته المحمدية، وتصطنع الحيلولة الزائفة بين الصوفية الحقة والسلفية الصادقة، وتتاجر بضرب الأولى بالثانية في دياجير الغيبوبة عن حقائق القرآن والسنة.

فالمعلم الأول : الذي نتعرفه في آيات هذه القصة هو ثبوت حقية العلم اللدني، وهو العلم الخاص الذي لا يعلم إلا من جهته تعالى وهو المثبت بقوله : (إنَّ للقرآن ظهرًا وبطنًا وحدًّا ومطلعًا)، وبقوله : (إنَّ من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل العزة بالله عز وجل)، ويعاضد ذلك: ما رواه الإمام البخاريُّ عن سيدنا أبي هريرة أنه قال: (حفظت عن رسول الله وعاءين من العلم، فأمَّا أحدهما فبثته، وأما الآخر: فلو بثثته قطع هذا البلعوم).

وهذا المعلَم مستفاد من قوله تعالى شأنه: (وعلمناه من لدنا علماً).قال العلاّمة الزمخشريُّ في تفسيره: (من لدنا: مما يختص بنا من العلم وهو الإخبار عن الغيوب).
وقال الإمامُ فخر الدين الرازي رضوان الله عليه: قوله (وعلمناه من لدنا علماً) يفيد أنَّ تلك العلوم حصلت له من عند الله من غير واسطة، والصُّوفية سموا العلوم الحاصلة بطريقة المكاشفات: العلوم اللدنية، وللشيخ أبي حامد الغزالي رسالة في (إثبات العلوم اللدنية). ثم تناول حقيقة هذا العلم بعد أن بسط له بتقسيم المدركات إلى تصديقيه وتصوريه، وإلى نظرية وكسبية، والكسبية إلى ما يتحصل بتكلف الفكر والنظر والتأمل، وما يتحصل بإشراق الأنوار الإلهية دون واسطة سعي في التفكير والتأمل وهو العلم اللدني فقال: (النوع الثاني: أن يسعى الإنسان بواسطة الرياضيات والمجاهدات في أن تصير القوى الحسية والخيالية ضعيفة، فإذا ضعفت قويت القوة العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية في جوهر العقل، وحصلت المعارف، وكملت العلوم من غير واسطة سعى وطلب في التفكر والتأمل، وهذا هو المسمى بالعلوم اللدنية.

إذا عرفت هذا فنقول: جواهر النفس الناطقة مختلفة بالماهية، فقد تكون النفس نفسًا مشرقة نورانية إلهية عُلوية قليلة التعلق بالجواذب البدنية والنوازع الجسمانية، فلا جرم فاضت عليها من علام الغيوب تلك الأنوار على سبيل الكمال والتمام، وهذا هو المراد بالعلم اللدني، وهو المراد من قوله: آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً.
وأما النفس التي ما بلغت في صفاء الجوهر وإشراق العنصر فهي النفس الناقصة البليدة التي لا يمكنها تحصيل المعارف والعلوم إلا بمتوسط بشري يحتال في تعليمه وتعلمه.

والقسم الأول بالنسبة إلى القسم الثاني كالشَّمس بالنسبة إلى الأضواء الجزئية، وكالبحر بالنسبة إلى الجداول الجزئية. وكالرُّوح الأعظم بالنسبة لي الأرواح الجزئية. فهذا تنبيه قليل على هذا المأخذ، ووراءه أسرار لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب).
وقال الإمام أبو القاسم القشيري في تفسير قوله تعالى: (وعلمناه من لدنا علماً): (قيل: العلم من لدن الله: ما يتحصل بطريق الإلهام دون التكلف بالتطلب ويقال: ما يعرف به الحق أوليائه فيما فيه صلاح عباده.
وقيل: هو ما يعود منه نفع إلى صاحبه بل يكون نفعه لعباده مما فيه حق الله سبحانه).

وقد نقل الإمامُ الألوسي عليه رضوان الله تعالى طرفًا من أقوال أئمة الصُّوفية رضوان الله عليهم في ماهية العلم اللدني عندتفسيره الإشاريّ لقوله تعالى (وعلمناه من لدنا علماً)، فقال في تفسيره (وقال ذو النون : العلمُ اللدني هو الذي يحكم على الخلق بمواقع التوفيق والخذلان. وقال الجنيد قدس الله سره: هو الاطلاع على الأسرار من غير ظنّ فيه ولا خلاف واقع، لكنه مكاشفات الأنوار عن مكنون المغيبات، ويحصل للعبد أن يحفظ جوارحه عن جميع المخالفات، وأفنى حركاته عن كل الإرادات، وكان شبحًا بين يدي الحقّ بلا تمني ولا مراد، وقيل: هو علم يعرف به الحق سبحانه أولياؤه ما فيه صلاح عباده. وقال بعضهم، هو علم غيبي يتعلق بعالم الأفعال، وأخص منه: الوقوف على بعض سر القدر قبل وقوع واقعته، وأخص من ذلك: علم الأسماء والنعوت الخاصة، وأخص منه علم الذات) .

ثم ينقل عن مفسر صوفي جليل هو الشيخ نجم الدين داية رضوان الله عليه أنه قال في تفسير قوله تعالى (وعلمناه من لدنا علمًا):- (وهو علم معرفة ذات وصفاته الذي لا يعلمه أحد إلا بتعليمه إياه).
ويوضح ذلك قائلاً : (واعلم أنَّ كُلَّ علم يعمله الله تعالى عباده ويمكن للعباد أن يتعلموا ذلك العلم من غيره الله تعالى فإنه ليس من جملة العلم اللدني؛ لأنه لا يمكن أن يتعلم من لدن غيره، يدل عليه قوله : (وعلمناه صنعة لبوس لكن، فإن صنعة اللبوس مما علَّمه الله داود عليه السَّلام، فلا يقال إنه العلم اللدني، لأنه يحتمل أن يتعلم من غير الله تعالى فيكون من لدن ذلك الغير، وأيضًا: إنَّ العلم اللدني ما يتعلق بلدن الله تعالى، وهو علم معرفة ذاته وصفاته تعالى).

ثم يفيض في بيان نوعية ذلك العلم الذي ذهب الكليم لتلقيه من الخضر عليه السلام ومن أي أنواع العلم الباطني هو؟ فيقول عليه الرضوان: (واعلم أنَّ التحقيق الحقيق في هذا المقام: أنَّ العلم المأمور موسى عليه السلام بتعلمه من الخضر هو العلم الباطني المتعلم بطريق الإشارة لا العلم الباطني المتعلم بطريق المكاشفة، ولا العلم الظاهري المتعلم بطريق العبارة.

والدليلُ عليه: إرسال الحق سبحانه موسى إلى عبده الخضر وعدم تعليمه بواسطة أمين الوحي جبرائيل، وتعليم الخضر بطريق الإشارة بالأمور الثلاثة، لكن لما كان الظاهر بالنظر إلى غلبة جانب علم الظاهر في وجود موسى أن يطلب تعلمه من طريق العبارة لا بطريق الإشارة، وطريقه: طريق الإشارة لا طريق العبارة قال: (إنك لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً) من طريق التعلم بالإشارة لا بالعبارة، والغالب عليك هو طريق العبارة، (ولكل وجهة هو موليها)، (قل كل يعمل على شاكلته). وبهذا البيان العرفاني الثاقب: نستجلي خصوصية وجهة هذا العلم الخضري المميزة في نطاق عموم العلم اللدني، وأنَّ ورود ذلك العلم حاصل بالطريق الإشاري. وقد أوتي سيدنا الخضر عليه السلام علم الإشارة والوراثة والباطن والحقيقة، ولذلك عبر عنه بلفظ العلم بناء على التعبير بالمطلق على الفرد الكامل بين أفراده، حيث أن العلم الباطني من العلم الظاهري بمنزلة الروح من الجسد والمعنى من الصورة، وكلاهما أي الظاهري والباطني له كماله الذاتي الحقيقي والافتراق بينهما من جهة التعين فلا يلغي أحدهما إثبات الآخر على الإطلاق.

بيد أنه لما كان مقام هذا العلم الباطنيّ مقام القرب الذاتي عبر عنه بقوله تعالى (من لدنا) أي: من مقام أحدية ذاتنا ومرتبتها، لحصوله بمحض تعليم الحق تعالى من لدنه بغير واسطة عبارة.

ومن هذا المعلم العلمي الذي هو محور أحداث ومفادات قصة سيدنا موسى مع سيدنا الخضر على نبينا وعليهما الصّلاة والسّلام: يتأصل ثبوت العلم اللدني ويسلم للسادة الصوفية المتحققين الإخبار عنه والعمل بمقتضاه طالما لا توجد أدني منافاة بينه وبين ظواهر النصوص الشرعية المحكمة.
ومن ثم لا يتلفت مطلقاً إلى إنكار المحجوبين المتعصبين على أولياء الله تعالى المقربين إثباتهم العلم اللدني ولعلوم المكاشفات والمشاهدات مادام الجمع بينها وبين ظواهر النصوص الشَّرعية ممكناً.

وإني لأعجب من حدة التعصب في رفض التسليم بشرعية هذا العلم من قوم يدعون الانتماء إلى السلف الصالح ويزعمون أن ابن تيمية هو إمامهم وقدوتهم في رفض العلم الباطن، وفي تزييق علوم المكاشفة وما دروا موقف إمامهم من ذلك على الحقيقة!.
إنَّ ابن تيمية كان منصفًا للصُّوفية في إثبات هذا العلم وعده من خوارق العادات التي يكرم الله تعالى بها أولياءه، فقال في رسالة عقدها لهذا المبحث بعنوان (قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات) وهي ضمن مجموع الفتاوى له- (.. فما كان للخوارق من باب العلم: فتارة بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره، وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومنامًا، وتارة بأن يعلم ما لا يعلمه غيره وحيا أو إلهامًا، أو إنزال علم ضروري أو فراسة صادقة، ويسمى كشفًا ومشاهدات، ومكاشفات ومخاطبات: فالسَّماع مخاطبات والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة، ويمسى ذلك كله (كشفاً) ومكاشفة أي: كشف له عنه( ). ثم نجد ابن تيمية يطلق على هذه الخوارق العلمية الواقعة للأولياء اسم المعجزات- متأسياً في ذلك بالإمام أحمد بن حنبل ويعتد منها ما وقع في قصة سيدنا موسى والخضر عليهما السلام فيقول: (وأما المعجزات التي لغير الأنبياء (من باب الكشف والعلم): فمثل قول عمر في قصة سارية، وإخبار أبي بكر بأن ببطن زوجته أنثى، وإخبار عمر بمن يخرج من ولده فيكون عادلاً، وقصة صاحب موسى في علمه بحال الغلام). 

وأما المعلم الثاني الذي نتعرفه في القصة القرآنية :فهو أن طريق الوصول إلى هذا العلم اللدني والتحقيق بمعرفة الله عز وجل إنما هو صدق العبودية لله تعالى والقرب منه سبحانه بالتزام منهاجه القويم، واتباع صراطه المستقيم حتى تتمخض عبودية العبد لسيده ومولاه فيقربه منه ويدنيه وينسبه لجنابه الأعلى ويؤتيه من رحمته رتبة الولاية الكبرى.

وهذا العلم مُستفاد من قوله تعالى : {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا}، فقد أثبتت الآية الكريمة تحقق سيدنا الخضر عليه السلام بصدق الغبودية لله عز وجل ابتداء، فكانت العبودية أول أوصافه، ثم اتبعت بالإضافة إلى الجناب الأقدس حيث قمة التشريف والاختصاص.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق