آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

التجلي الإلهي

التجلي الإلهي

الإشارة : اعلم أن الحق جل جلاله قد تجلى لعباده في مظاهر الأكوان، لكنه لحكمته وقدرته، قد تجلى بين الضدين، بين الأنوار والأسرار، بين الحس والمعنى، بين مظهر الربوبية وقالب العبودية، فالأنوار ما ظهر من الأواني، والأسرار ما خَفِيَ من المعاني، فالحس ما يُدرك بحاسة البصر، والمعنى ما يُدرك بالبصيرة. فالحس رداء للمعنى، فمن فتح الله بصيرته استولى نورُ بصيرته على نور بصره، فأدرك المعاني خلف رقة الأواني، فلم تحجبه الأواني عن المعاني، بل تمتحق في حقه الأواني، ولا يرى حينئذٍ إلا المعاني. لذلك قال الحلاج، لما سئل عن المعرفة، قال: (استهلاك الحس في المعنى). فإذا فَنِيَ العبد عن شهود حِسِّه بشهود معناه، غاب وجوده في وجود معبوده، فشاهد الحقَّ بالحق. فالعارفون لَمَّا فنوا عن أنفسهم، لا يقع بصرهم إلا على المعاني، فهم يشاهدون الحق عيانًا. ولذلك قال شاعرُهم:


مُذَ عَرَفت الإله لَم أرَ غَيرًا وكذَا الغَيرُ عِنَدنَا مَمنُوعُ

وقوله تعالى: {لا تُدركه الأبصارُ} أي: الأبصار الحادثة، وإنما تدركه الأبصار القديمة في مقام الفناء. وقال الورتجبي: لا تدركه الأبصار، إلا بأبصار مستفادة من أبصار جلاله، وكيف يدركه الحدثان؟ ووجود الكون عند ظهور سطوات عظمته عدم. هـ. أو لا تحيط به، إذ الإحاطة بكُنه الربوبية متعذرة. وعلى هذا حمل الآية في نوادر الأصول، قال: إدراك الهوية ممتنع، وإنما يقع التجلي بصفة من صفاته.
وقال ابن عبد الملك في شرح مشارق الصغاني، ناقلاً عن المشايخ: إنما يتجلى الله لأهل الجنة، ويريهم ذاته تعالى، في حجاب صفاته، لأنهم لا يطيقون أن يروا ذاته بلا حجابٍ مرَتبةٍ من مراتب الصفات. وقال الورتجبي: التجلي لا يكون بكلية الذات، ولا بكلية الصفات، وإنما يكون على قدر الطاقات، فيستحيل أن يقال: تجلى كل الهوى لذرة واحدة، وإنما يتجلى لها على قدرها. هـ.
وتتفاوت الناس في لذَّة النظر يوم القيامة على قدر معرفتهم في الدنيا، وتدوم لهم النظرة على قدر اسغراقهم هنا، فمن كان هنا محجوبًا لا يرى إلا الحس، كان يوم القيامة كذلك، إلا في وقت مخصوص، يُغيبه الحق تعالى عن حسه، فيشاهد معاني أسرار الربوبية في مظاهر أنوار صفاته. ومن كان هنا مفتوحًا عليه في شهود المعاني، كان يوم القيامة كذلك، لا تغيب عنه مشاهدة الحق ساعة.
قال الغزالي في كتاب الأربعين: إذا ارتفع الحجاب بعد الموت انقلبت المعرفة بعينها مشاهدة.
قلت: ومعنى كلامه: أن ما عرفه به هنا من التجليات، صار بعينه هناك مشاهدة؛ لأن المعنى هناك غالب على الحس، بخلاف دار الدنيا، الحس فيها غالب، إلاَّ لمن غاب عنه واستهلكه. ثم قال: ويكون لكل واحد على قدر معرفته، ولذلك تزيد لذة أولياء الله تعالى في النظر على لذة غيرهم، ولذلك يتجلى الله تعالى لأبي بكر خاصة، ويتجلى للناس عامة.
وقال في الإحياء: ولَمَّا كانت المعرفة على درجات متفاوتة كان التجلي على درجات متفاوتة، ثم ذكر حديث التجلي لأبي بكر المتقدم. ثم قال: فلا ينبغي أن يظن أن غير أبي بكر، ممن هو دونه، يجد من لذة النظر والمشاهدة ما يجده أبو بكر، بل لا يجده، إلا عُشرَ عُشرِه، إن كانت معرفته في الدنيا عشر عشره، ولما فَضَل الناسَ بسر وقر في صدره، فضل لا محالة بِتَجلًّ انفرد به.
وقال أيضًا: يتجلى الحق للعبد، تجليًا يكون انكشاف تجلَّيه، بالإضافة إلى ما علمه، كانكشاف تجلي المرئيات بالإضافة إلى ما تخيله ـ أي: إلى ما وصفه له الواصف. ثم قال: وهذه المشاهدة والتجلي هي التي تسمى رؤية، ثم قال: المعرفة الحاصلة في الدنيا هي التي تستكمل، فتبلغ كمال الكشف والوضوح وتنقلب مشاهدة، ولا يكون بين المشاهدة في الآخرة والمعلوم في الدنيا اختلاف، إلا من حيث زيادة الكشف والوضوح. وقال أيضًا: وبحر المعرفة لا ساحل له، والإحاطة بكنه جلاله مُحال، وكلما كثرت المعرفة وقويت؛ كثر النعيم في الآخرة، وعظم، كما أنه كلما كثر البذر وحسن؛ كثر الزرع وحسن، ولا يمكن تحصيل هذا البذر إلا في الدنيا، ولا يزرع إلا في صعيد القلب، ولا حصاد إلا في الآخرة. هـ.
قال شيخنا مولاي العربي رضي الله عنه: بل الرجال زرعوا اليوم وحصدوا اليوم، وفي تفسير الأقليشي لقوله: { اهْدِنَا الصِّرَاط المُسْتَقِيمَ } [الفاتحة:6]: ليس لهذه الهدايةـ ما دام العبد في الدنيا ـ نهاية، حتى إذا حصل في جوار الجبار، ونظر إلى وجهه العظيم، كان حظه من النعيم بقدر ما هداه في الدنيا لصراطه المستقيم. هـ. وقال في نوادر الأصول: في الحديث: " "إنَّ مِن أهل الجنَّة من ينظرُ إلى الله عزَّ وجَلَّ غُدوَةً وعَشيًّا " . ورُوِي عن معاذ أنه قال: "صِنفٌ مِن أهلِ الجَنَّة مَن يَنظُر إلى الله عزَّ وجَلَّ، لا يُستر الربُّ عنهم ولا يحتَجِبُ" ثم قال: وذُكر أن الرضوان آخر ما ينال أهلُ الجنة، ولا شيء أكبر منه، وكل عبد من أهل الجنة حظه من الرضوان هناك فيها على قدر جوده بنفسه على الله في الدنيا. هـ.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق