آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم(3)


ولما كان الانتقال من عمل الظاهر إلى عمل الباطن لا بد أن يظهر أثره على الجوارح قال تعالى:" إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها"، وظهور الأثر هو التجريد، أشار إليه بقوله:

(إرادَتُكَ التَّجْريدَ مَعَ إقامَةِ اللهِ إيّاكَ في الأسْبابِ مِنَ الشَّهْوَةِ الخَفيَّةِ، وإرادَتُكَ الأَسْبابَ مَعَ إقامَةِ اللهِ إيّاكَ فِي التَّجْريدِ انْحِطاطٌ عَنِ الهِمَّةِ العَلِيَّةِ).

قلت : التجريد في اللغة هو التكشيط والإزالة، تقول جردت الثوب أزلتُه عني، وتَجَرّد فلان أزال ثوبه، وجَرَّدْتُ الجلد أزلت شعره، وأما عند الصوفية فهو على ثلاثة أقسام: تجرد الظاهر فقط أو الباطن فقط أو هما معاً، فتجريد الظاهر هو ترك الأسباب الدنيوية وخرق العوائد الجسمانية، والتجريد الباطني هو ترك العلائق النفسانية والعوائق الوهمية، وتجريدهما معاً هو ترك العلائق الباطنية والعوائد الجسمانية، أو تقول تجريد الظاهر هو ترك كل ما يشغل الجوارح عن طاعة الله، وتجريد الباطن هو ترك كل ما يشغل القلب عن الحضور مع الله، وتجريدهما هو إفراد القلب والقالب لله، والتجريد الكامل في الظاهر هو ترك الأسباب وتعرية البدن من معتاد الثياب، وفي الباطن هو تجريد القلب من كل وصف ذميم وتحليته بكل وصف كريم، وهو أي التجريد الكامل الذي أشار إليه شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن المجذوب بقوله :

اقاريين علم التوحيد ... هنا البحور إلى تغبي 
هذا مقام أهل التجريد ... الواقفين مع ربي

وأما من جرد ظاهره دون باطنه فهو كذاب، كمن كسى النحاس بالفضة، باطنه قبيح وظاهره مَلِيح، ومن جرد باطنه دون ظاهره إن تأتى ذلك فهو حَسَن كمن كسى الفضة بالنحاس وهو قليل، إذ الغالب أن من تَنَشَّبَ ظاهره تنشب باطنه، ومن اشتغل ظاهره بالحس أشتغل باطنه به، والقوة لا تكون في الجهتين، ومن جمع بين تجريد الظاهر والباطن فهو الصِّدِيقُ الكامل، وهو الذهب المُشَحَّر الصافي الذي يصلح لخزانة الملوك.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه :"آداب الفقير المتجرد أربعة : الحُرْمَة للأكابر، والرحمة للأصاغر، والإنصاف من نفسك، وعدم الإنتصار لها، وآداب الفقير المتسبب أربعة : موالاة الأبرار، ومجانبة الفجار، وإيقاع الصلاة في الجماعة، ومواساة الفقراء والمساكين بما يَفْتَح عليه"، وينبغي له أيضاً أن يتأدب بآداب المتجردين إذ هو كمال في حقه. ومن آداب المتسبب إقامته فيما أقامه الحق تعالى فيه مِن فعل الأسباب حتى يكون الحق تعالى هو الذي يَنْقُلُهُ منها على لسان شيخه إن كان، أو بإشارة واضحة كتعذرها من كل وجه، فحينئذ ينتقل للتجريد، فإرادته التجريد مع إقامته تعالى له في الأسباب من الشهوة الخفية؛ لأن النفس قد تقصد بذلك الراحة ولم يكن لها من اليقين ما تَحْمِلُ به مشاق الفاقة، فإذا نزلت بها الفاقة تزلزلت واضطربت ورجعت إلى الأسباب فيكون أقبح لها من الإقامة فيها، فهذا وجه كونها شهوة، وإنما كانت خفية لأنها في الظاهر أظهرت الانقطاع والتبتل وهو مقام شريف وحال منيف، لكنها في الباطن أخفت حظها من قصد الراحة أو الكرامة أو الولاية أو غير ذلك من الحروف ولم تقصد تحقيق العبودية وتربية اليقين، وَفَاتَهَا أيضاً الأدب مع الحق حيث أرادت الخروج بنفسها ولم تَصْبِر حتى يُؤْذَنَ لها. وعلامة إقامته فيها دوامُها له مع حصول النتائج وعدم العوائق القاطعة له عن الدين وحصول الكفاية بحيث إذا تَرَكَها حصل له التشوف إلى الخَلْقِ والاهتمام بالرزق، فإذا انخرمت هذه الشروط انتقل إلى التجريد. قال في التنوير:" والذي يقتضيه الحق منك أن تمكث حيث أقامك حتى يكون الحق تعالى هو الذي يتولى إخراجك كما تولى إدخالك، وليس الشأن أن تترك السبب بل الشأن أن يتركك السبب"، قال بعضهم :"دخلت على الشيخ أبي العباس المرسي وفي نفسي العزم على التجريد قائلاً في نفسي : إن الوصال إلى الله تعالى على هذه الحالة التي أنا عليها بعيد من الاشتغال بالعلم الظاهر ووجود المخالطة للناس، فقال لي من غير أن أسئَلَهُ : صَحِبَني إنسان مشتغل بالعلوم الظاهرة ومُتَصَدِّرٌ فيها فذاق من هذا الطريق شيئاً، فجاء إلي فقال لي : يا سيدي أَخْرُجُ عما أنا فيه وأتفرغ لصحبتك، فَقُلْتُ له : ليس الشأن ذا، ولكن امكث فيما أنت فيه وما قَسَّمَ الله لك على أيدينا فهو لك واصل، ثم قال الشيخ ونظر إلي : وهكذا شأن الصِّدّيقِينَ لا يخرجون من شيء حتى يكون الحق سبحانه هو الذي يتولى إخراجهم، فخرجت من عنده وقد غسل الله تلك الخواطر من قلبي ووجدت الراحة بالتسليم إلى الله تعالى"، ولكنهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ".
قال شيخنا رضي الله عنه : إنما منعه من التجريد لِشَرَهِ نفسه إليه، والنفس إذا شَرَهَت للشيء كان خفيفاً عليها، والخفيف عليها لا خير فيه، وما خف عليها إلا لِحَظٍّ لها فيه. ثم قالو : فلا يتجرد المريد في حال القوة حتى تفوت إن أراد أن يستفيد نفسه، فإن جردها في حال القوة أتاه الضعف فيَعْقُبُهُ الخصمان ويشوشونه ويفتنونه، وربما إذا لم يدركه المولى بلطفه سامح في الخلطة ويرجع إلى ما خرج منه حتى يسيء ظنه بأهل التجريد، ويقول ليسوا على شيء كلنا دخلنا البلد وما رأينا شيئاً.
والذي يثقل عليه التجريد أولاً هو الذي ينبغي له أن يتجرد، لأنه ما ثقل عليها إلا حيث تحققت أن عنقها تحت السيف، مهما حرك يده قطع أوداجها، انتهى المقصود منه.
وأما المتجرد إذا أراد الرجوع إلى الأسباب من غير إذن صريح فهو إنحطاط من الهمة العالية إلى الهمة الدَّنِيَّة، أو سقوط من الولاية الكبرى إلى الولاية الصغرى.
قال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه قال لي شيخي سيدي العربي : يا ولدي لو رأيت شيئاً أعلى من التجريد وأقرب وأنفع لأخبرتك به، ولكن هو عند أهل هذه الطريقة بمنزلة الإكسير الذي قِيرَاطٌ منه يغلب ما بين الخافقين ذهبا كذلك التجريد في هذه الطريق.
وسمعت شيخ شيخنا رضي الله عنه يقول : معرفة المتجرد أفضل، وفكرته أنصع، لأن الصفا من الصفاء، والكَدَرُ من الكَدَرِ،صفاء الباطن من صفاء الظاهر، وكَدَرُ الباطن من كَدَرِ الظاهر، وكلما زاد في الحس نقص في المعنى .
وفي بعض الأخبار : إذا أخذ العَالِمُ شيئاً من الدنيا نقصت درجته عند الله وإن كان كريماً على الله، وأما من أُذِنَ له في السبب فهو كالمتجرد إذ صار حينئذ سببه عبودية.
والحاصل أن التجريد من غير إذن سبب، والسبب مع الإذن تجريد وبالله التوفيق.  
تنبيه: هذا الكلام كله مع السائرين، وأما الواصلون المتمكنون فلا كلام عليهم إذ هم رضي الله عنهم مأخوذون عن أنفسهم، يقبضون من الله ويدفعون بالله، قد تولى الحق تعالى أمورهم وحفظ أسرارهم، وحرس قلوبهم بجنود الأنوار فلا تؤثر فيها ظلم الأغيار، وعليه يحمل حال الصحابة في الأسباب رضي اله عنهم ونفعنا ببركاتهم آمين.

واعلم أن المتسبب والمتجرد عاملان لله إذ كل واحد منهما حصل له صدق التوجه إلى الله تعالى حتى قال بعضهم: "مثل المتجرد والمتسبب كعبدين للملك قال لأحدهما اعمل وكُلْ، وقال للآخر إلزم أنت حضرتي وأنا أقوم لك بقسمتي" ولكن صدق التوجه في المتجرد أقوى لقلة عوائقه وقطع علائقه كما هو معلوم.


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق