آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب : الحقيقة القلبية الصوفية / أحمد لسان الحق (27).

ومصدر الالتباس ، وارتكاس القيم ، يكمُن في عدم قدرة علماء الشريعة على القيام بالازدواجية في البحث ، وفرز الأوراق بين ميدان الأرواح ، التي ليست لها حدود تحدّها ، وبين ميدان العقول العاجزة عن إدراك الحقائق ، خصوصا الحقائق القلبيّة ، التي من اختصاص أصحاب الحقيقة ، وليست من اختصاص أصحاب الشريعة ، وقد تقدّم لابن خلدون أن قال حول اختصاص الصوفيّة بعلم الحقيقة :"اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم ، الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه".

إن ماحققه العقل البشريّ المحدود القوة والإدراك ، أنه عاجز عن معرفة حقيقة النفس ، كما هي ، وعن معرفة حقيقة خالقها أعجز... ومن ثمّ فأصحاب الحقيقة الصوفيّة لا يعتمدون على القوّة العقلية في الوصول إلى معرفة الله ، بل يرون أن العقل الذي كثيرا ما يطبع بالجحود ، قد يجمّد الفطرة ، التي فطَر الله عليها عباده ، ويعرقل الانطلاقة الروحيّة نحو الملأ الأعلى . والفطرة الطاهرة قاعدة معنويّة ، تنطلق منها الأرواح إلى ما لايعلم نهايته ، إلا الذي أحاط علما بالعالم الأسمى الذي نزلت منه ، كما أن النفس البشريّة الترابيّة قاعدة حسيّة ، تنطلق منها العقول ، فتجول داخل إطارها المادي المحسوس ، الذي خلقت منه،وتكوّنت وسجنت بداخله. 

إن غير واحد من الفلاسفة ، يقرّر أنّ كلّ ما يمكن للعقل ، الذي يعمل على مستوى المحسوس ، أن يحقّقه في اكتشاف عالم ما وراء المادّة ، هو إدراك العلم به ، والاعتقاد بوجوده . أما معرفته ومشاهدته ، فمستحيلة الإدراك عن طريق العقل . وأكثر من ذلك أنّهم ينكرون أو يشكّكون حتّى في المادّة نفسها . وقد أنكر "شانكرا" من فلاسفة الهند على العقل كشْف أي حقيقة . سواء في المادة أو فيما وراءها ، وبعده أكد الفيلسوف "كانْتْ" أن الإنسان يعرف من الأشياء ظواهرها . أما الأشياء ذاتها فمستحيلة الإدراك (100) ورأى "ديكارت" أن القضايا التي توحي بها شهادة الحواسّ قابلة للشّك (101) وبعده جاء "بركلي" فنزع منزعه في التشكيك في شهادة الحواس ، وأنكر كل الحقول التي تعمل فيها حواسنا من مبصرات ومسموعات وملموسات وغيرها ، وقال :"لا وجود إلاّ للروح والعقل" (102) وقد يقصد ما سمّاه "أفلاطون" بالعقل الأعلى المنظّم للكون.. أما الروح ، التي أصلها من عالم الروح ، الصرمديّ الأبديّ ، فنعم ، فإن لها وجوداً معنويّا خالدا أصيلا... وأما العقل الذي يولد ويكوَّن في أحضان المادة ، فميْدانه الطبيعيّ هو المادّة . والمادة حادثة ، والحادث مئاله الفناء . ووجود ما يفنى كلا وجود .

ويقول الفيلسوف الأمريكي "برجسون" : إن العقل هو الامتداد الطبيعيّ لحواسنا ولذا فإن موضوعه الأول هو المادة الجامدة (103) وقرّر أن من أخصّ خصائص العقل عجزه الطبيعي لفهم الحياة . فالعقل يدرك الأشياء من الخارج بطريقة آلية . بينما الغريزة تدرك من الداخل بطريقة غير عضوية .- لم يعرف الروح فعبّر بالغريزة -.والغريزة من طبيعة الحيوان. 

وإذا كان العقل عاجزاً عن إدراك حقيقة الأشياء الماديّة ، والنفس البشريّة شيء ماديّ ، وقد عجز عن معرفتها . ففي العقلانيّين الذين لا يملكون أداة للمعرفة بكل فروعها إلا العقل ، يصدق التعبير بتعليق المستحيل على المستحيل في حديث :"من عرَفَ نفسَه عرفَ ربّهُ" ولما استحال عن عقولهم أن تعرف حقيقة النفس التي تحتكّ بها ، استحال في حقّهم أن يعرفوا حقيقة خالقها .وقد أرغمهم الواقع على الاعتراف بالعجز عن الوصول إلى ما وراء المادة . وفي ذلك يقول الفيلسوف "سبنسر" :"إن وراء العالم الطبيعي ّ جانباً ، يستحيل على الإنسان معرفته" (104) وأنكر الفيلسوف"نيتشه" كل معطيات العقل ، إذ يرى أن بين العقل والحقيقة حاجزاً لا يستطيع العقل أبدا أن يرى ما وراءه (105) .

وفي العقل المادي يقول الأستاذ عبد الكريم الخطيب :"قد أجرت الإنسانية العقل في هذا الميدان : ميدان عالم غير المنظور قديما وحديثا ، فلم يبلغ بها غاية ، ولم يحقّق لها مطلوبا ، بل أصبح من الحقائق المعتمدة أن العقل لن يدرك كُنْه الوجود . سواء الظاهر منه أم الباطن ، وأنه إن أدرك شيئا من عالم المادة ، فلن يدرك إلا بعض الظواهر ، التي تلوح على سطحها . أما أعماقها وأغوارها ، فلا يصل العقل إلى شيء منها ، كما يبدو في المحاولات المتوالية يوما بعد يوم في ميدان في الكشوف العلميّة . وأما عالم ما وراء الطبيعة ، فإن العقل وراءه في عجز مطلق " (106) .

فكان العجز المطلق نتيجةَ ما وصل إليه أصحاب العقول المتقدّمة ، والفكر المتميز الراقي . وأما أصحاب الحقيقة القلبية ، ومن بينهم أُميّون ، فيمتازون بأنهم يتركون العقل الماديّ وغروره وجحوده ، والنفس الماديّة وشيطانها في الأرض التي خلِقت منها . تَتَهاتف العقول الماديّة حول معرفتها ، ويبدأون الرحلة القلبيّة الروحيّة عند انتهاء مدركات العقول ، ويرحلون بأرواحهم الطيّبة الطّاهرة نحو عالم الأرواح : عالم الأسرار والأنوار، التي نزلت به ، لتعود بعد صفائها عودة الفرع إلى أصله . وهو ما يفهم ممّا سيأتي ممّا رواه الإمام الشاطبي عن أبي يزيد البسطامي ، إذ يقول :"رأيتُ ربّي في المنام ، فقلتُ : كيف الوصول إليكَ ؟ فقال : (اتْرُكْ نَفْسَكَ وتَعالَ) وقد تركها ، وترك معها العقل الماديّ الجاحد ، وما تهوى من رُعونات ، وما تأمر به من مخالفات.. والله تعالى أعلمنا بما تأمر به ، فقال :(إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) (107) وبتركها وغفلَتها ، والعقل وجحودَه ، وصل إلى معرفته تعالى . ولسان حاله يقول :"من ترك نفسَه عرفَ ربّه" ومن بقيت معه ، ورام الوصول بعقله ، انقطعت به الأسباب ، وخسر حيث الفطريُّون بأرواحهم ينجحون .
ذلك أن العقل مادّي بطبعه . ولد من المادة ضعيفاً بلا قوة ، وتربّى وتكوّن في أحضانها ، وبالاحتكاك بها ، وبتيّارتها المختلفة ، اكتسب القوّة على التفكير والقدرة على التحليل ، كما يرى الفيلسوف المادي "ماركس" فكان من الطبيعيّ أن يعجز عن معرفة حقيقة أُمِّه ، أو يتجاوزها إلى معرفة ما وراءها . بخلاف الروح التي تنزل أصلا من عالم نورانيّ . ننعته بما وراء المادة ، وتسجن ما شاء الله في القميص الجسمانيّ المادي ، المستّسخ أخلاقياً بعوامل نفسيّة ، وتأثيرات اجتماعيّة.. فإذا طهرت وصفت عادت إلى أصلها.. أمّا العقل الحسّيّ الماديّ فيبقى حيث ولد ونشأ ، إلى أن يفنى بفناء الذات الماديّة التي تحمله "وَكُلُّ مَا فَوْقَ التُّرابِ تُرابُ" . 

وعجز العقل عن إدراك الحقيقة الغيبيّة لا يمسّ بوجودها . وإنما يدل على أنه - كمخلوق ماديّ محدود الإدراك - عاجز عن إدراك حقيقة غيبيّة سامية عن أن تراها الأبصار ، أو تدركها الحواسّ الماديّة . والعقل - كما قال "برجسون" - هو الامتداد الطبيعيّ للحواس . وبما أن موضوع العقيدة والإيمان هو الاعتقاد بوجود حقيقة غيبيّة ساميّة عن مدركات العقول ، فالعجز عن إدراكها يفرض الاعتقاد بوجودها ؛ لأننا لا نؤمن بما ندرك . وإنما نؤمن - غيبيا - بما لا ندرك بالعقل .

وفي ذلك يقول الفيلسوف الدانماركي "كيرك جورد" :"فلو استطعت أن تدرك الله ، كما تدرك الأثير- مثلا - لما كنت مؤمناً به . ويجب أن تؤمن به ، لا لأنّك تدركه ، بل لأنك لا تدركه" (108) هذا الرأي قريب من قول ابن خلدون : "التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب" ورأيه قريب ممّا روى عن أبي بكر الصدّيق أنه قال :"العجز عن الإدراك إدراك" فالعجز عن إدراك مشاهدة المحبوب هو إدراك الاعتقاد بوجوده ؛ لأن عجز الإدراك يقع في الموجود وليس المعدوم .

وقد زاد ابن خلدون لنظرية عجز العقل عن الإحاطة بالكائنات توضيحاً ، فقال في المقدّمة :"ولا تثق بما يزعم لك الفكر ، من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها ، والوقوف على تفصيل الوجود كله ، وسفه رأيه في ذلك ، واعلم أن الوجود عند كل مدرك في بادئ رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها ، والأمر في نفسه بخلاف ذلك ، والحق من ورائه . فاتهم إدراكك ومدركاتك في الحصر.. وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه ، بل العقل ميزان صحيح ، غير أنه لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة ، وحقيقة النبوّة ، وحقائق الصفات الإلهيّة ، وكل ما وراء طوره . فذلك طمع في محال" وقال الفيلسوف "بسكال" : إن للقلب منطلقا هيهات للعقل أن يفهمه" (109) .

وتلك هي الحقيقة ، فالعقل أكبر نعمة ميّز الله بها الإنسان ، ليضبط به أمور الدين ، ويدبّر أمور الدّنيا . ومهمّته في الميدان الديني ذات أهميّة كبيرة ، كلّما استعمل في استنباط الأحكام ، وإقامة الأدلة والبراهين على وجود الله ، قصْد تحقيق العقيدة والإيمان ، وإنما لا يعتَمد في أمور الغيب ، خاصّة الحقيقة الإلهية ، التي من ميدان الأرواح . فاختصّت القوّة العقليّة بتصحيح العقيدة ، والروحيّة بالوصول إلى المعرفة القلبيّة . وهنا يتجلّى الفرق بين العقيدة والمعرفة ، هو الذي يقع بين المُوحّد والعاَِرف.. والمُوحّد والعَارِف كلاهما يستظلاّن بظلّ شجرة التوحيد ، إذ التوحيد الصّافي الحقيقيّ هو الباب الوحيد المفتوح نحو المعرفة القلبيّة . 

**      **      **

100 - قضية الألوهيّة بين الفلسفة والدين 98/1 لعبد الكريم الخطيب 
101 - الوسيط في الاقتصاد الإسلامي والعصري 225/1 للمؤلف
102 - الوسيط في الاقتصاد الإسلامي والعصري 225/1 للمؤلف
103 - قضية الألوهيّة بين الفلسفة والدين 96/1
104 - قضية الألوهيّة بين الفلسفة والدين 96/1
105 - نفس المصدر 97/1
106 - نفس المصدر 97/1
107 - سورة يوسف : 53 تقدمت 
108 - قضية الألوهيّة بين الفلسفة والدين 102/1
109 - قضية الألوهيّة بين الفلسفة والدين 110/1

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية