آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

لماذا لم يشتهر التصوف في زمان الصحابة والتابعين ؟

لماذا لم يشتهر التصوف في زمان الصحابة والتابعين ؟

   يقول ابن عباد :

   وأما ما طلبتموه من الكلام على مسائل البراءة ، فأكثر ما فيها غير محتاج إلى التكلم عليه إلا الفصل الأخير من قول كاتبه : ومَن ظَنّ بي أن عدم أخدي في طريق التصوف إنما هي لرجحان غيرها عندي عليها ، إلى آخر هذا المعنى . 
   واعلم أن الحق لا يستبين في المسألة ما لم يُعلم معنى التصوف وثمرته وفائدته  ، لأن الحكم على الشيء رداًّ وقبولاً فرع عن كونه معقولاً . وجملة التصوف كون العبد على حالة توافق رضى مولاه عنه ومحبته له ، وذلك على قسمين : علم وعمل .
   فالعلم يستفاد به تصحيح عقائد أهل الدين ومقاصد المكلفين .
والعمل يستفاد به قيام العبد بحسن الأدب بين يدي ربّ العالمين لتتحقق عبوديته له في كل حال وفي كل حين .
وهذا هو حقيقة ما جاء به إلينا نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم من الدّين القويم والصراط المستقيم وهو دين الإسلام الذي لا يقبل الله تعالى سواه ولا يرتضي من الأديان حاشاه . ومعناه الخضوع والاستسلام لنوازل الأحكام ، والانقياد والإذعان لمقتضيات أوامر الإيمان ظاهراً وباطناً سراًّ وعلانية من غير حرج في الصدر ولا ضيق في القلب ولا تَلَكُّؤ في النفس . فإذا كان هذا معنى التصوف لِمَ يتصور من أحد يؤمن بالله واليوم الآخر  أن يهمله أو يشتغل بغيره ؟ فمَن أهمَل النظر فيه أو تشاغل عنه بغيره فذلك إنما يكون لعدم معرفته به .
   ومن هذا تعلم أن أكثر طلبة العلم مخدوعون مغرورون ، لأنهم إذا اشتغلوا مثلا بفن الفقه المصطلح عليه الذي هو أقرب العلوم في الظاهر إلى المقصود ، ولم يعنوا قبل ذلك بتصحيح نياتهم ومقاصدهم بطريق التصوف كانوا بذلك متَّبعين لأهوائهم منقادين لآرائهم ، وذلك هو اللهو واللعب الذي لا جدوى له في المنقلب (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) (الأنعام الآية 70) فإن ادّعى أحدهم أن نيته في ذلك صحيحة ، قيل له : من أين لك هذا وأنت لم تسلك طريقه ؟ فها هنا ينقطع لا محالة ، إذ لا سبيل إلى ذلك إلا إذا ضرب بسهم في طريق القوم . فإن في طريق القوم تظهر له خدع النفس ، وخفابا متابعة الهوى والطبع ، وفيه يتراءى له خفيّ الشرك وجليَّه ودقائق الآفات وجلائلها ، فيكون إذ ذاك أخده فيه بباعث ديني غير مشوب بغرض هوائي ، وعند ذلك لا يكون خارجاً من طريق التصوف إلى غيره لأنّا نحسب ذلك من جملة أعماله المطلوبة منه في التحقيق بمعناه . وقد قدّمنا أنّ العمل أحد قسمَي مدلوله ، ومصداق ما ذكرناه من شمول لفظة التصوف لما ذكرناه من المعاني ما يقول الشيخ أبو نعيم رحمه الله حين يذكر السادة من الصحابة والتابعين وأئمّة المسلمين ويُحلِّي كل واحد بحليته ويصفه بصفته ، فإنه يقول : وقد قيل إن التصوف كذا ، وقد قيل إن التصوف كذا ، إشعاراً منه بأنهم  وإن اختلفت طرقهم ومذاهبهم ، وتباينت مطالبهم ومراتبهم ، قد اشتركوا في مدلول هذا الإسم وضربوا في مقتضاه بأوفر سهم . والحاصل من هذا ألا غير معتبر معه لأنه حق وما عداه باطل .
   فإن قلت : إنكم حصرتم الأمر في طريق واحدة وهي طريق التصوف ، وأبطلتم تعدد الطرق ، فمن أين وقع اختلاف الناس حتى توجّهت كل فرقة إلى جهتها وارتضت مذهباً خلاف مذهب صاحبتها ؟ .
   فأقول : لما حدثت البدع والأهواء ، كثر الاختلاف وتشعبت الآراء . وانظر هذا المعنى في الكتاب المذكور فيه البدعة والتقليد من جملة الكتب التي عندكم ، فإني أحب أن أُريح نفسي من التطويل الذي لا فائدة فيه ، مع أنه أظهر من كل ظاهر .
وليس يصح في الأذهان شيء
متى احتاج النهار إلى دليل
   فإن قلت : هلاّ اشتهر فن التصوف في زمان الصحابة والتابعين ووقع من التحقيق والتدقيق فيه ما وقع بين أئمتهم لا سيما هؤلاء المتأخرين ؟ 
   فأقول : معناه بكماله عندهم ، ويدل عليه وجود ثمراته من دعوتهم إلى الله وإعلاء كلمته ومجاهدة من حادّه وأشرك به ، وشغلهم بهذا هو الذي منعهم من التبحُّر في علمه وإنهاء النظر فيه إلى غايته ، ولا غاية له ، مع أنهم مستغنون عن هذا كله بما هم غرقى فيه من بحار التوحيد ، فلما قضى الله تعالى بما قضى به من ذهاب الدين وخُبو أنوار الأيمان واليقين ، وخرج الناس من الدين أفواجاً ، إذ لم يبتلوا بالتشاغل بغيرهم ، فتفرغوا لما لم يتفرغ له الأولون من التفنُّن في علوم التوحيد والتحقّق بحقائق أهل الفناء والتجريد ، إلى غير ذلك من تربية وتهذيب وتصنيف وتبويب وجمع وترتيب ، وصادفوا لذلك خلوة يا لها من خلوة لما أسبل على غيرهم أستار الغيرة وابتلى به سواهم من استيلاء الجهل والغرة . وهؤلاء وأشباههم هم الذين تمنّى رسول الله صلى الله عليه وسلم لرؤيتهم واشتاق إليه وسمّاهم إخوانه في الحديث الصحيح وهم المعنيون بقوله صلى الله عليه وسلم :(إنّ لله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء) قال الشيخ أبو عبد الله السلمي رحمه الله : سئل بعض أهل المعرفة عن قول النبي صلى الله عليه وسلم :"يغبطهم الأنبياء والشهداء" كيف يغبطهم الأنبياء وهم فوقهم في المحل ؟ فقال : لأن الأنبياء شُغلوا بفرائض الإبلاغ ومشاهدة الخلائق ، وأولئك لم يكلّفوا ذلك ، فلم يشغلهم عن الله شيء ، فلذلك يغبطهم الأنبياء ، وإن كان الأنبياء أعلى وأتمّ . وانظر شيئاً من هذا المعنى في أول كتاب "لطائف المنن" ، ثم إنهم يقلُّون في كل زمان حتى لا يكاد يُرى منهم إنسان . وهذا هو أوان ذلك ، فنسأل الله تعالى حُسن العاقبة وجميل الخاتمة .

الرسائل الكبرى - ابن عباد الرندي

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق