( فَاقَتُك لَكَ ذَاتِيَّةٌ ، وَوُرُودُ الأَسْبَابِ مُذَكِّرَةٌ لَكَ بِمَا خَفِيَ عَلَيكَ مِنْهَا والفَاقَةُ الذَّاتِيَّةُ لا تَرْفعُهَا العَوَارِضُ )
الفاقة الذاتية هي الأصلية الحقيقة والأسباب المحركة لها هي العوارض الجلالية، وهي كل ما يقهر النفس ويزعجها عن حظوظها وتصرفاتها العادية، وإنما كانت فاقتاً ذاتية لا تفارقنا ساعة واحدة، لأن نشأتنا مركبة من حس ومعنى، ولا يقوم الحس إلا بالمعنى، والمعني هو أسرار الربوبية القائمة بالأشياء، فأشباحنا مفتقرة في كل لحظة إلى نعمة الإمداد بعد نعمة الإيجاد، ولا الحكمة إلا بالقدرة، ولا البشرية إلا بالروحانية، والروح سر من أسرار الله، قال تعالى :" قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي" فالبدن قائم بالروح والروح أمر من أمر الله وكل شيء قائم بأمر الله، فافتقار البشرية للروحانية حاصل على الدوام، قال تعالى في نعمة الإيجاد :(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، فهذا هو الافتقار إلى نعمة الإيجاد. ثم قال في نعمة الإمداد :(إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) وهذا هو افتقارنا إلى نعمة الإمداد، وقال تعالى في افتقار بقية العالم :(إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا)فالكون كله قائم بأمر الربوبية مظهر من مظاهرها لا قيام له بدونها، قال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه :" الحق سبحانه مُسْتَبِدٌ والوجود مُسْتَمدّ، والمادة من عَيْنِ الجود، فإذا انقطعت المادة انعدم الوجود" والمراد بالوجود ظهور الحس، وعين الجود هو المعاني اللطيفة القديمة، يعني أن الحق تعالى مستبد أي قائم بنفسه، وظهور تجلياته مستمدة من باطن صفاته، ومادة الأشياء كلها من عين الجود وهي نعمة الإيجاد والإمداد، فإذا انقطعت المادة أي مادة المعنى من الحس اضمحل الحس واضمحلت الأكوان، فلو ظهرت صفاته اضمحلت مكوناته. ففاقتك أي افتقارك أيها الأنسان لك ذاتية، أي أصلية حقيقية لكنها خفية، وورود الأسباب المحركة لظهور تلك الفاقة وهي الشدة والحيرة وكل ما يلجئك إلي مولاك مذكرة لك ما خفي عنك منها، يعني أن فاقتك لا تفارقك، إذ كل لحظة تفتقر إلى من يمدك بالوجود في الساعة و الثانية، إلا أنها خفية لا تذكرها حتى يتحرك عليك أسباب ظهورها، كالفتن والمرض وغيرهما، والفاقة الأصلية الذاتية لا ترفعها العوارض وهي الصحة والعافية، فما دام العبد في العافية ففاقته خفية لا يتفطن لها إلا العارفون لأنه لا يزول اضطرارهم، فإذا قام عليه جلال أو محرك ظهر افتقاره وتحقق اضطراره مع أنه دائم في الفاقة حسه ومعناه والله تعالى أعلم.
ثم أن رجوع الشيء إلى أصله مرغب فيه وخروجه عن أصله لا خير فيه، وأصلك أيها الأنسان هو الفاقة والاضطرار والذلة والانكسار، فكل ما يردك إلى أصلك فهو لك في غاية الحسن والاختيار، كما أبان ذلك بقوله :
(خَيْرُ أَوْقَاتِكَ وَقْتٌ تَشْهَدُ فِيهِ وُجُودَ فَاقَتِكَ ، وَتُرَدُّ فِيهِ إِلَى وُجُودِ ذِلَّتِكَ)
إنما كان شهود الفاقة هو خير أوقاتك لوجهين :
أحدهما : ما في ذلك من تحقيق العبودية وتعظيم شأن الربوبية، وفي ذلك شرف العبد وكماله إذ بقدر تحقيق العبودية في الظاهر يعظم شهود الربوبية في الباطن، أو تقول بقدر العبودية في الظاهر تكون الحرية في الباطن، أو تقول بقدر الذل في الظاهر يكون العز في الباطن، أو تقول بقدر وضع الظاهر يكون رفع الباطن، من تواضع دون قدره رفعه الله فوق قدره، وانظر أشرف خلق الله وهم الأنبياء بماذا خاطبهم الله تعالى، فما خاطبهم إلا بالعبودية قال الله تعالى :( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا) (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ).
وقد اختارها نبينا صلى الله عليه وسلم حين خير بين أن يكون نبياً ملكاً أو نبياً عبداً، فاختار أن يكون نبياً عبداً، فدل على أن أشرف حال الإنسان هو العبودية، فبقدر ما يتحقق بها في الظاهر يعظم قدره في الباطن، ومهما خرج منها في الظاهر بإظهار الحرية أدبته القدرة وردته القهرية حتى يرجع إلى أصله ويعرف ماله وعليه.
الوجه الثاني : ما في الفاقة من مزيد المدد وطلب الاستمداد، إنما الصدقات للفقراء والمساكين، إن أردت بسط المواهب عليك، صحح الفقر والفاقة لديك، كما يأتي إن شاء الله، وقد جعل الله النصر والفتح مقرونين بالفاقة والذلة وتحقيق الضعف والقلة، قال الله تعالى :(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ) وقال تعالى :( وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ ) وجعل الخذلان وعدم النصر والمعونة في إظهار الحرية والقوة، قال تعالى :(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) وذلك لما وقع من بعض الصحابة الذين كانوا حديثي عهد بإسلام فأدبهم الله بإظهار الحرية لكن عمت الفتنة، قال تعالى :(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) وهذا وجه ذكر الآية قبل ذكر القضية والله تعالى أعلم.
فإذاً خير أوقاتك أيها المريد وقت تشهد فيه وجود فاقتك، أي ظهورها وإلا فهي كامنة فيك كما تقدم وتسمى عند المتأخرين الحيزة وهي الشدة، فهي خير لك من ألف شهر إن عرفت فيها ربك، والمعرفة فيها أن تسكن عن التحرك والاضطراب وتقطع النظر عن التعلق بالأسباب وترجع فيها إلى مسبب الأسباب، وتعلق همتك برب الأرباب وتكتفي بعلم الله الكريم الوهاب. ولقد سمعت شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول :"العجب من الإنسان يرى الخير أو الفتح واصلاً إليه وقادماً عليه ثم يقوم يبادر بسد الباب في وجهه وهو أن يرى الفاقة قادمة عليه فيبادر إلى الأسباب التي تقطعها عنه قبل وصولها، فقد كان الربح واصلاً إليه فقام فرده" أو ما هذا معناه. وخير أوقاتك أيضاً : وقت تشهد فيه وجود ذلتك كما تقدم لأنه سبب عزك ونصرك، إذ الأشياء كامنة في أضدادها، العز في الذل، والغنى في الفقر، والقوة في الضعف، والعلم في الجهل أي في إظهار الجهل إلى غير ذلك، قال تعالى :( نُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) وقال تعالى في حق الصحابة رضي الله عنهم حين كانوا في حالة الاستضعاف والإذاية تسلية لهم :( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)، ومما جرت به العادة الإلهية أن الفرج على قدر الضيق، فبقدر الفقر يكون الغنى، وبقدر الذل يكون العز، وبقدر العسر يكون اليسر، والحاصل بقدر الجلال يكون الجمال عاجلاً وآجلاً، قال تعالى :(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا )، ولن يغلب عُسر يُسرَين، كما في الحديث حيث قال عليه السلام لابن عباس رضي الله عنه :"واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا".