المسيرة الروحية للشيخ و سيدي الحاج العباس رحمه الله أنموذجا قبل أثناء وبعد المشيخة.
قبل المشيخة
للأمانة سأسرد كلام سيدي حمزة كما سمعته مباشرة بالتلقي، في جلسات مختلفة والله على ما أقول شهيد.
في إحدى الليالي كنا جلوسا مع سيدي حمزة بمداغ "إقليم بركان" وذلك سنة 1983 نتجاذب أطراف الحديث فطلبت منه أن يحدثنا عن سيدي العباس و سيرته الذاتية فأجاب قائلا: "الوالد الله يرحمو كان فلاحا كبيرا في المنطقة"، وكانت عبادته جد متواضعة وكنا نتردد على السوق الأسبوعي قصد التسوق (بمدينة أحفير)، و كنا نلتقي مرارا بأحد المجاذيب داخل السوق حاملا كيسا مملوءا بالفواكه الموسمية آنذاك، ويكرم المارة بتلك الفواكه، وكان كلما رأى الوالد يستدعيه (رْوَاحْ أسيدي العباس) ويختار أحسن وأجود الفواكه من الكيس ويقدمها له ويقول له باللفظ "هاك أسيد العباس!" "سعداك أسّعود! تَسْتاهل!"(أي: تستحق)، إشارة وبشارة للقادم. و تكرر نفس المشهد كلما رآه"!.
فبلغت الدرجة إلى ارتباط وتعلق الوالد بذلك المجذوب، فذات يوم استدار المجذوب نحو الوالد وقال له بالحرف: " َشتك أَسيد العباس تعلقت بي و توجهت إليا؟! أسيدي العباس، أنا ما عندي والو، وما عندي ما نعطيك.
واش راك دير أسيدي العباس في خدمتك؟ أجابه الوالد: "راني فلاح وتاجر".
فقال له المجذوب: "روح أَسيد العباس، إِيلا عندك شي تجارة تْجرها؟ وإيلا عندك شي فلاحة فلّحها، ولي قالت لك نفسك ديرها، انْهار يْجي وقتك وتشرق شمسك، وأهل الله يْلبْسوكْ الحُلَّة، ديكْ الساعة يْكُن كلامْ آخرْ".
فاستطرد كلام سيدي حمزة قائلا: "هاذاك الوقت كنا لم نلتحق قبل بالطريق، ولم نلتق بالشيخ سيدي بومدين، إلى أن شاءت الأقدار في إحدى المناسبات، التقيناه و صرنا من أتباعه، وكان الوالد رحمه الله جندٌ من جنوده، وبذل كل ما لديه من مال ووقت له للزاوية.
وبعد مرور الزمن وحان وقت رحيل سيدي بومدين إثر وعكة صحية ألمت به، أرسل إلى الوالد وقال له بالحرف "الأمانة عندك أسيد العباس". دُهِشَ الوالد وأجهش بالبكاء وقال له : "أسيدي أنا متْبعتكْش على هذا شي !؟(أي لم أتبعك قصد الظّفر بالمشيخة)، ولِّي شرقت شمسو إِديرها في دارو، هاذ شّي لِّي كَبّيتو فِيّا نْكبُّو في أولادك"، قال له سيدي بومدين بالحال: هذا أمر الله أسيد العباس، أنا ما عندي فيه حتى شِي حظّ، أما اوْلادي ما يسْتَهلوش)"أي لا يستحقونه" لأنهم ما خدموش.
فارتبك الوالد؟!
عندها قال له سيدي بومدين: "لا تبالي أسيد العباس، راك تقول حتى واحد ما يتبعك! شوف أسيد العباس، راهْ مين جي وقتك، فتح دارك،ولِّي يشوف يشوف، ولِّي يسمع يسْمعْ، وليْنُوم يْنومْ (أي الرؤى والمشاهدات) ومزال غادي تْشوف أَشْ غيوقَع في الطريق، سوف يكثر العلم والسر والصلاح والأتباع، ويبلغ صيتها العالم بأسره،وهاد الطريق أسيد العباس السَّاسْ ديالها مْتينْ لي خَتَّشْ يْهَلْكُو مُولانا".
أثناء المشيخة
قال سيدي حمزة رضي الله عنه :الشيخ قبل اعتلائه المشيخة يكون له اسم : زايد أو عمرو، ولكن بعد ارتدائه حُلّة الاولياء ويشرف على مقام الإحسان يصبح له لقبا جديدا هو "السيد" في العُرف الصوفي، وينطبق عليه الحديث القدسي (حديث الولي: ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ).
فسألت سيدي حمزة رحمه الله و ما هي مواصفاته؟
قال لي باللفظ :"شُوف أسي عبد الجبار المسكنة والاستقامة على دين الله، والإصلاح والرحمة وعدم المبالاة لا بالمدح،ولا بالذم، ولا بالفقر، ولا بالغنى في باب الله، يتعامل مع نِعَم الله كأنها وسيلة للوصول، لا تشغله عن الطاعة ولا على الوظيفة التي خلق ونصب من أجلها، تخطيطاته كلها ربانية"(أي لا يحتاج إلى مستشار أو مساعد البتة يساعده في الشأن الروحي وتربية النفوس).
وأردف قائلا : "شوف أسي عبد الجبار!: "مَيمْكنشْ ليا ندير أي حركة بلا إذن، وتخطيطاتنا ربانية، دايْمن راه معايا الوليد ما يفارقنيش(أي يشاهده) هو ليْوجّهني"ديرْ هادي، مَديرْشْ هادي، وِلا جا عنْدي زائرْ ، يْقولِّي : عنْدَكْ التِّيقْ في هذا، ردّ البالْ من هذا، تْهلّا في هذا" انتهى كلامه.
فالشيخ إذن لا يحتاج إلى كاهن أو عارف ليعينه أو يستعين به لتسيير شؤون و أمور الزاوية.
نفس الشيء عشته مع سيدي جمال ودائما يقول لنا: " راه الوالد معايا لا يفارقني، تيْعاوني في التسيير نتاع الطريق".
ملاحظة:
فإن جل العلماء أجمعوا على أن بعض أولياء الله يجوز في حقهم الإطلاع على الغيب النسبي لا المطلق وهذا من باب الكرامات.
استحضرني قول المجذوب لسيدي العباس في السوق: "لقالْتْلكْ نفسك ديرها ديرْها" "فسألت سيدي حمزة عن فحوى الجملة: فقال لي: "الشيخ تنقسم حياته إلى شطرين:
الشطر الأول: قبل المشيخة قد يجري عليه ما يجري على العوام. (أي أفعاله وتصرفاته كعامة الناس)، قد يكون تائها ضائعا منحرفا شاردا عن صراط الله، وهذا ما جاء في سير كثير من أولياء الله الكبار قبل أن يُفتح عليهم.
كالولي الصالح فضيل بن عياض، كان قبل واليته لِصًّا وقاطع الطُرق على القوافل التجارية آنذاك.(انظر قصته كاممة في كتب التراجم أو الأنترنيت).
الولي الصالح مالك بن دينار كان سكِّيرا وشديد الفجور قبل واليته.(انظر قصته كاممة في كتب التراجم أو الأنترنيت).
الولي الصالح بشر الحافي كان أميرا من أمراء البصرة، وكانت حياته ملؤها المجون والسكر واللهو والغناء والرقص.(انظر قصته كاممة في كتب التراجم أو الأنترنيت).
الولي الصالح عبد الله بن المبارك كان يتقن فن الطرب والعزف على العود والتعلق بالموسيقى.(انظر قصته كاممة في كتب التراجم أو الأنترنيت).
الشطر الثاني: لَمَّا يأذن الله بالتوبة وتشرق شمس العرفان على القلب، يولد ولادة جديدة مختلفة عن الحياة التي كان عليها من قبل فينجذب إلى الله، وتصبح حركاته وسكناته ربانية.
هكذا أصبح هؤلاء الأولياء السالف الذكر ربانيينَ مضِرب المثال في التقوى والورع والكرم والصالح والعبادة والزهد والرحمة والإتزام بأوامر الله. انتهى كالم سيدي حمزة.
ثم سألته عن الحكمة من هذا التقسيم الشطري فأجابني رحمه الله قائلا: " شوف أسي عبد الجبار سبق ما سبق في علم الله والحكمة وراء هاته الأفعال المشينة قبل المشيخة وهي بعد توليهم المشيخة وجب عليهم أن يكونوا رحمة للعالمين كيف ما كان حالهم ومنزلتهم في الدنيا واستدل رحمه الله بالآية الكريمة : ( وَوَجَدَكَ ضَآلّٗا فَهَدَىٰ*وَوَجَدَكَ عَآئِلٗا فَأَغۡنَىٰ*فَأَمَّا ٱلۡيَتِيمَ فَلَا تَقۡهَرۡ*وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلَا تَنۡهَرۡ*وَأَمَّا بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثۡ) صدق الله العظيم.
قبل وفاة الشيخ وتسليم الأمانة
يقول سيدي حمزة في هذا الباب:
هناك حالتان:
1 - قبل وفاة الشيخ قد يخبر بالخلف ويُؤمر من طرف الحضرة بأن يبوح باسم الشيخ الذي يليه وذلك عن طريق الوصية، في هاته الحالة وجب على الفقير الاستماع واتباع ما ورد في الوصية، إن أراد إكمال مسيرته الروحية.
عندما سألته ما معنى يؤمر من طرف الحضرة؟ قال لي رحمه الله: أي يتم الإجماع المطلق من طرف أهل الله قاطبة على إسم الخلف.
2 - بعض الشيوخ لا يتركون الوصية لأنهم لم يُخبروا من طرف الحضرة بالخلف: ومن تم وجب على المريد البحث عن الشيخ الحي قصد إكمال مسيرته الروحية. وفي هاته الحالة تصبح الزاوية في غياب الشيخ تبركية فقط لا غير، أي يسيرها مُقدَّم وليس بشيخ، يتم اختياره من طرف الفقراء.
بعض كرامات سيدي حمزة وتعد بالمئات
الأموال المشبوهة
القصة الأولى :أحيانا عقب زيارة المريدين للشيخ، كنت أساعد المكلف بِعَدِّ مداخيل الزيارة وإبلاغ سيدي حمزة بالمبلغ وكثيرا ما يقول لي سيدي عبد الجبار: "أخرِج نصيبا من لفلوسْ المُتسخة" ويحدد لي المبلغ الذي استخرجه (مثال في بعض الأحيان 3500 درهم أو 15000 درهم أو 120000... وهكذا دواليك) وصدِّقها على المقيمين!. فلما سألته معنى لفلوس المُتَّسخة ؟ قال لي أسي عبد الجبار!: "واش كاعْ لفلوس لنتسلموها صافية؟! راها فيها فلوس مشبوهة!، الرشوة وحتى الزكاة!. انتهى كلام سيدي حمزة. (اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله).
ولكي يثبت لي سيدي حمزة ما صدر منه، كنا ذات يوم بمداغ في إحدى الزيارات أيام عيد الفطر جلوسا مع سيدي حمزة، فأقبل أحد الشرفاء واتجه نحو سيدي حمزة واستأذنه بدخول الفقيرات قصد الزيارة، طلب السيد من الجميع الانصراف، فهممت بالخروج فقال لي باللفظ "اجلس أسي عبد الجبار".
جَلَستْ الفقيرات مع السيد وسلّمن له أظرفة مكتوب عليها الاسم والمبلغ، وإذا بالمكلَّف بالميزانية جمع كلَ المبالغ في ظرف واحد، فرمقتُ ظرفين مكتوب عليهما الزكاة مع المبلغ، فنهرته ونبّهته للأمر!. فقال لي: " كُلْشي بحال بحالْ ". عندها قلت له: شوف أَفلانْ الزكاة لا تجوز في حق السيد أو الزاوية!. (إذن هنا أصبحت الأموال المحصل عليها متسخة بلغة أهل الله).
في سنة 2014 بالنعيمة سلّم زائر لسيدي حمزة كيسًا يضم 200 مليون سنتيم كزيارة، رفضها السيد البتة فتركها الزائر وانصرف، عندها أمر سيدي حمزة السيد المكلف بأن لا يضمها إلى الخزينة وأمره أن يوزعها على المقيمين.(أي الفقراء)
إذا هذا خير دليل على نقاء وصفاء التبرعات المودعة في خزينة الزاوية.
القصة الثانية :الربيع العربي: كنت يوميا أتردد على زيارة سيدي حمزة "بالنعيمة" وكان دائما يسألني عما يجري من أحداث ووقائع بالعالم العربي والتوترات السائدة آنذاك، وذا في يوم من الأيام قلت له : "أسيدي الدَّعوَة راها ما تَعْجَبْشْ! ما بقا إلا المغرب تشْعَلْ فيه؟. تبسم سيدي حمزة وقال لي بالحرف: "أسي عبد الجبار واش لبلاد راها سايبة!!! لن تصيبنا أي شرارة من شرارة الربيع العربي المشؤوم وهذا ماشي كلامي هذا كلام أهل الله، وهانْتَ غادي تْشُوف".
واستطرد قائلا : شوف أسي عبد الجبار، هاد لبلاد راضيين عليها أهل الله، والملكية هي بمثابة صمام أمان للبلاد. وراه سيدي محمد السادس و مولاي الحسن راهُم في الحفظ والصون وعليهم السُّور والدُّور، ذبّانة ما تَنزلْش عليهم، ولي دار عليهم يَكُلْهَا، فاتْ الحال،فاتْ الحال!، أسي عبد الجبار،ونِزيدك ما زال خيرات كثيرة تظهر في المغرب في عهدهما.
القصة الثالثة :أحد الفقراء من الجالية المقيمة بالخارج تزوج أبوه بامرأة ثانية فساءت علاقته بوالده وقاطعه لسنوات، وفي أحد الأيام استدعاه سيدي حمزة قال له: "سيدي فلان، راه يوم القيامة لا تنفع الشفاعة في العاق لوالديه ولن أنفعك آنذاك، أنصحك أن تتصالح مع أبيك، فهداه الله، واستجاب لوصية السيد، واصطلح مع أبيه، وبعدها بشهرين توفي أبوه رحمه الله.
القصة الرابعة : في سنة 1989 استأذن أحد الفقراء السيد للذهاب إلى الحج، والسيد قال له من الأحسن أن تؤجل الحج إلى العام المقبل. فاستغرب الفقير من رد الشيخ!؟ فامتثل ولم يباشر استخلاص الإجراءات المالية الخاصة بالحج بوزارة الأوقاف، بعدها بشهر أصيب بوعكة صحية لم ينفع معها علاج، وكانت على ذمته ديون فقام بتسديدها كلها وتسديد مصاريف التطبيب فتوفاه الله. و لقي الله مبرء الذمة. والحمد لله على نعمة الطريق.
القصة الخامسة :أيام كورونا استدعاني شيخي سيدي جمال بمنزله وأثناء تجاذب أطراف الحديث طلبت منه أن يدعو الله لرفع هذا البلاء، وقال سيدي جمال باللفظ : ّمَنورِّيوشْ مولانا وَشْ يْديرْ، خَلِّي كورونا دِر خَدمَتها فهاذا العامَين، راها جند من جند الله، ناس طغاةْ وتجبرت وتكبرت على مولانا".
والحمد لله هذا ما عشناه وشهدناه عيانا مع سيدي حمزة وسيدي جمال ذوقا ومعنى قدس الله سرهما.
الزاوية في مرمى التشويش
تعرف زاويتنا المباركة في غياب شيخنا مولاي جمال شفاه الله تشويشا هجينا، ولن يُنال منها لأن كما قال سيدي بومدين رحمه الله: " السَّاس ديالها متين" هذه من جهة ومن جهة أخرى، فإن قلوب الفقراء الحية ذوقها الروحي رفيع، لا ولَمْ وَلَنْ تقبل أن يَسوسها اسم خارج الوصية.
وكان دائما سيدي حمزة رحمه الله يقول لنا: ها السوق طويل وعريض لي بغا يفتح شي زاوية يفتحها الله يسهل عليه، والبقاء للأصلح.
وكان يقول أيضا في إحدى لقاءاته : "لي يقلب علينا نْقَلبو عليه" إشارة إلى مَن يرتد ويكيد للزاوية من داخلها وخارجها، وصدق الله العظيم إذ يقول : (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) وبه الختام والسلام.
الفقير إلى الله عبد الجبار شكيب : أستاذ جامعي بوجدة.