آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

كشف الغطاء في طريق الصوفية / ابن خلدون (4)

وهذه كلها أدلة واضحة على أن شأن الباطن أعظمُ وعلاجُه أسمى. ولِنَأتِ في ذلك بمزيد منها وذلك أن الأعمال الظاهرةَ كلّها في زمامِ الاختيار وتحت طوْعِ القدْرةِ البشَرية، وأعمال الباطنِ في الأكثر خارجةً عن الاختيارِ ومتعاصِبة على الحكم البشري إذْ لا سُلطانَ لهُ على الباطنِ بل وتَرجع الأعمالُ الظّاهرية إليه لأنها تحبُّ سُلطانَه وطَوْعَ إشارَتِهِِ وفي زِمام اختيارِه. ولماذا كانت النيةُ التي هيَ مبدأُ الأعمالِ أصلا في العبادات عند الشرعْ ورُوحًا لها حتى أنَّ العملَ إذا خلا عنها بَطل ولا يعْتدّ به المكلفُ في .... قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ )

ثم لما درج الصحابة رضوان الله عليه، وجاء العصر التالي لعصرهم تلقى أهله هدي الصحابة مباشرة تلقينا وتعليما، وقيل لهم : التابعون، ثم قيل لأهل العصر الذي بعدهم أتباع التابعين. ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، وفشا الميل عن الجادّة، والخروج عن الاستقامة، ونسي الناس أعمال القلوب وأغفلوها، وأقبل الجم الغفير على صلاح الأعمال البدنية، والعناية بالمراسم الدينية من غير التفات إلى الباطن ولا اهتمام بصلاحه، وشغل الفقهاء بما تعمّ به البلوى من أحكام المعاملات، والعبادات الظاهرة حسبما طالبهم بذلك منصب الفتيا، وهداية الجمهور، فاختصَّ أربابُ القلوب باسم الزهّاد والعبّاد وطلاب الآخرة، منقطعين إلى الله، قابضين على أديانهم كالقابض على الجمر حسبَمَا وَرَدْ. ثم طرقت آفة البِدَع في المعتقدات، وتداعى العُبّاد إلى مذاهبَ شتى، هذا معتزليّ ورافضيّ وخارجيّ، لا ينفعهم شيء من أعمالهم الظاهرة والباطنة مع فساد الـمُعْتَقَد الذي هو رأسُ الأمر. فانفرد خواص السنة المحافظون على أعمال القلوب، المقتدون بالسلف الصّالح في أعمالهم البَاطنة والظاهرة وسُمُّوا بالصوفية. 

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق