آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم (30)

هذا آخر الباب التاسع وحاصلها علامة كمال العارف وآدابه في الطلب ، وفي البسط والقبض ، وفي المنع والعطاء ، ومن جملة العطاء ما يعطيه الحق سبحانه عباده من الخيرات في مقابلة أعمالهم الصالحات ، كما أشار إلى ذلك في أول الباب العاشر بقوله وقال رضي الله عنه : 

 {جَلَّ رَبُّنَا أَنْ يُعَامِلَهُ الْعَبْدُ نَقْدًا فَيُجَازِيهِ نَسِيئَةً }


النقد ما كان معجلاً ، والنسيئة ما كان مؤخراً ، ومن شأن الكريم إذا اشترى شيئاً أن ينجز نقده ويزيد إحسانه ورفده ، وقد اشترى الحق تعالى منا أنفسنا وأموالنا فعوضنا بها الجنة ، فمن باع نفسه وماله ونقدهما وسلمهما إليه عوضه الله جنة المعارف عاجلاً وزاده جنة الزخارف آجلاً مع ما يتحفه به من أنواع النعيم ودوام الشهود والنظر إلى وجهه الكريم ، فجل ربنا ، أي تنزه وترفع أن يعامله العبد نقداً أي معجلاً ، فيجازيه نسيئة ، أي مؤخراً ، بل لا بد أن يعجل له ما يليق به في هذه الدار ويدخر له ما يليق به في تلك الدار ، والذي عجل له سبحانه في هذه الدار أمور منها : 
ومنها : ما يشرق عليه من الأنوار ، ويكشف لقلبه من الأسرار ، وهي أنوا ر التوجه وأنوار المواجهة ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) وهو نور يفرق بين الحق والباطل ، وقال تعالى :(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) وقال تعالى :(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) يخرجهم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ، ومن ظلمة المعصية إلى نور الطاعة ، ومن ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة ، ومن ظلمة الحس إلى نور المعنى ، أو من ظلمة الكون إلى نور المكون ، ومنها التوفيق والهداية لها قبل عملها حتى جعلك أهلاً للوقوف بين يديه ، وهو الذي أبانه بقوله:

 { كَفَى مِنْ جَزَائِهِ إِيَّاكَ عَلَى الطَّاعَةِ أَنْ رَضِيَكَ لَهَا أَهْلاً }


لأن الملك لا يدعو لخدمته إلا من يريد أن يكرمه ، ولا يدخل لحضرته إلا من يريد أن يعظمه ، ولا ينسب له إلا أهل الفضل والتكرمة ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ، فالتوفيق لها أعظم منة وأكبر جزاء على وجودها لأنها تحقق للعبد ثلاثاً : أولها : تصحيح النسبة لمولاه بوجه ما . الثاني : وجود الإقبال عليه بصورة ما. الثالث : إقامة رسم العبودية في الجملة ، والله أعلم .قاله الشيخ زروق رضي الله عنه. ومنها : ما يرد على قلبه حال عملها من المؤانسة به والقرب له ، وهو الذي ذكره بقوله: 

{ كَفَى الْعَامِلِينَ جَزَاءً مَا هُوَ فَاتِحُهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فِى طَاعَتِهِ }


والذي فتحه على قلوبهم في حالة العمل ثلاث : محاضرة أو مراقبة أو مشاهدة ، فالمحاضرة للطالبين ، والمراقبة للسائرين ، والمشاهدة للواصلين ، فالمحاضرة للعموم ، والمراقبة للخصوص ، والمشاهدة لخصوص الخصوص ، والكل يسمى خشوعاً . قال بعضهم : "الخشوع إطراق السر على بساط النجوى باستكمال نعت الهيبة ، والذوبان تحت سلطان الكشف ، والإمحاء عند غلبات التجلي" ويختص المقام الثالث بقرة العين .  وقال الشيخ زروق ما يجده في حالة الطاعة ثلاث :
   أولها : وجود الأنس به فيها بروح إقباله ، ومنه ما يقع من الرقة والخشوع .
   الثاني : وجود التملق بين يديه ، وله حلاوة ينسي بها كل شيء . 
   الثالث حصول الفهم والفوائد العلمية والإلهامات اللدنية التي بها يترك كل شيء .
قال بعضهم :"في الدنيا جنة من دخلها لم يشتق إلى جنة الآخرة ولا إلى شيء ، ولم يستوحش أبداً ، قيل وما هي ؟ قال : معرفة الله  . وقال بعض العلماء : "ليس في الدنيا ما يشبه نعيم الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة". وكان بعضهم يقول :" التملق للحبيب والمناجاة للقريب في الدنيا ليس من الدنيا هو من الجنة أظهره الله في الدنيا ، لا يعرفه إلا هم ولا يجده سواهم روحاً لقلوبهم" . 
ومنها ما يجده من الثمرات بعد عملها وهو الذي أشار إليه بقوله :

{ وَمَا هُوَ مُورِدُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ وُجُودِ مُؤانَسَتِهِ }


هذه المؤانسة التي يجدها العامل بعد العمل على ثلاثة أقسام :
 مؤانسة ذكر ، وهو لأهل الفناء في الأفعال . ومؤانسة قرب وهو لأهل الفناء في الصفات وهم أهل الاستشراف . ومؤانسة شهود وهو لأهل الفناء في الذات . فالأول لأهل الإسلام ، والثاني لأهل الإيمان ، والثالث لأهل الإحسان . فمؤانسة الأول توجب له الفرار من الناس والوحشة منهم ، ومؤانسة الثاني توجب القرب لهم على حذر منهم ، ومؤانسة الثالث توجب الصحبة لهم ومخالظتهم ، لأنه يأخذ منهم ولا يأخذون منه . فالأول لا تليق به إلا العزلة لضعفه ، والثاني تليق به الصحبة مع العسة ليتعلم القوة فهو يشرب منهم ولا يشربون منه لبعده منهم بقلبه ، والثالث لا تليق به إلا الصحبة لتحققه بالقوة فو يأخذ النصيب من كل شيء ولا يأخذ النصيب منه شيء ، يصفو به كدر كل شيء ولا يكدر صفوه شيء ، ومؤانسة الذكر توصل لمؤانسة القرب ، ومؤانسة القرب توصل لمؤانسة الشهود ، فمن صعد عقبة أفضت به إلى راحة ما بعدها ، قال بعض العارفين :"ليس شيء من الطاعات إلا ودونه عقبة كؤود يحتاج فيها إلى الصبر ، فمن صبر على شدتها أفضى إلى الراحة والسهولة ، وإنما هي مجاهدة النفس ومخالفة الهوى. ثم والله مكابدة في ترك الدنيا ، ثم اللذة والتنعم ، أي ثم تكون لذة الطاعة وتنعم المعرفة .
 ثم ينبغي لك أيها المريد ألا تقصد شيئاً من هذه الأمور التي يجازيك الحق تعالى بها كانت معجلة أومؤجلة ، فإن ذلك نقص في إخلاصك وناقض لصدق عبوديتك ، كما أشار إليه بقوله :

{ مَنْ عَبَدَهُ لِشَىْءٍ يَرْجُوهُ مِنْهُ ، أَوْ لِيَدْفَعَ بِطَاعَتِهِ وُرُودَ الْعُقُوبَةِ عَنْهُ فَمَا قَامَ بِحَقِّ أَوْصَافِهِ }


الناس في عبادة الله بإعتبار إخلاصهم على ثلاثة أقسام : 

فمنهم من يعبد الله خوفاً من عقوبته معجلة أو مؤجلة أو طمعاً في رحمته وحفظه عاجلاً وآجلاً وهم عوام المسلمينوفيهم قال عليه السلام :" لولا النار ما سجد لله ساجد ".

ومنهم من يعبد الله محبة في ذاته وشوقاً إلى لقائه لا طمعاًفي جنته ولا خوفاً من ناره ونكاله وهم المحبون العاشقون من السائرين. 

ومنهم من يعبد الله قياماً بوظائف العبودية وأدباً مع عظمة الربوبية أو تقول صدقاً في العبودية وقياماً بوظائف الربوبية وهم المحبون العارفون.
فالقسم الأول : عبادته بنفسه لنفسه.
والثاني : عبادته بنفسه لله.
والثالث : عبادته بالله لله ومن الله إلى الله.

فمن عبد الله تعالى لشيء يرجوه منه في الدنيا أو في الآخرة أو ليدفع عنه بطاعته ورود العقوبة في الدنيا أو في الآخرة، فما قام بحق أوصاف الربوبية التي هي العظمة والكبرياء والعزة والغني، وجميع أوصاف الكمال ونعوت الجلال والجمال إذ نعوت الربوبية من العظمة والجلال تقتضي خضوع العبد بالإنكسار والإذلال، أرأيت أن لم تكن جنة ولا نار ألم يكن أهلاً لأن يعبد الواحد القهار، أرأيت من أنعم بنعمة الإيجاد والأمداد أليس أهلاً لأن يشكره جميع العباد، فمن كان عبداً مملوكاً لسيده لا يخدمه في مقابلة نواله ورفده بل يخدمه لأجل عبوديته ورقه وسيده لا محالة يقوم بمؤونته ورزقه أيبرزك لوجوده ويمنعك من جوده أيدخلك داره ويمنعك إبراره ؟ لقد أسأت الظن بالرب الكريم أن اعتقدت أنك أن لم تعبده منعك من جوده العظيم لقد أجري عليك منته ورزقك وأنت في ظلمة الأحشاء ثم حين أظهرك لوجوده وبسط لك من جوده جعلك تتصرف فيه كيف تشاء وتصنع به ما تشاء. 

فاستحي من الله أيها الإنسان أن تطلب أجراً على عبادة أجراها عليك الواحد المنان وأذكر قوله تعالى :( الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يكن أحدكم كالعبد السوء أن خاف عمل ولا كالأجير السوء أن لم يعط الأجرة لم يعمل ".
وقال وهب بن منبه في زبور داوود عليه السلام يقول الله تعالى :ومن أظلم ممن عبدني لجنة أو نار لو لم أخلق جنة ولا ناراً ألم أكن أهلاً أن أطاع .   ثم أن رفعت همتك عن طلب الحظوظ صبت عليك الحظوظ فقد ورد في بعض الأخبار أن الله يحفظ الأولاد وأولاد الأولاد بطاعة الأجداد لقوله تعالى :(وكان أبوهما صالحاً) فقد حفظ الحق تعالى كنزهما بصلاح أبيهما ، فقد صبت الحظوظ على الأولاد ، وهو حفظهم بترك الآباء الحظوظ ، وكان سعيد بن المسيب يقول لولده :" إني لأطيل الصلاة من أجلك"  ومعناه أني أعبده مخلصاً لعله يحفظك .  ثم أن مدد الحق وهو لطفه وإبراره جار على الطائعين في كل وقت وحين سواء أعطاهم في الحس أو منعهم ، وسواء بسطهم أو قبضهم ، وهو ظاهر لمن يفهم عن الله.



التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق