آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

كشف الغطاء في طريق الصوفية / ابن خلدون (19)

ولِنُشِرْ إلى شرحِ هذه الألفاظ  فنقول : لما كان معنى المجاهدة كما قرَّرناه اكتسابَ النَّفس للصفات المحمودة، وتلوُّنَها بها صفةٌ بعد صِفَةٍ، ولها تَرتيبٌ في تعليمِ اكتسابِهَا مخصوصٌ بها، كالإرادة، والتَّوْبَةِ، والتَّقوى، والوَرَع، والزُّهد، والمُجاهدة، والقَناعة، والتَّوكُّل، والخُشوع، والتواضُع، والشكرِ، واليقينِ، والصَّبرِ، والمراقبةِ، والرِّضا، والعبودية، والاستقامة، والإخلاص، والصدق، والتوحيد، والمعرفة، والمحبة، والشوق.

وأول هذه الصفات الإرادَةُ، وليستِ اختيارِيَّة كما مرَّ، والصفةُ الأخيرةُ هي الغايةُ القُصْوى والقصدُ الأشرفُ،  وهي المعرفةُ والتَّجلِّي والمشاهدةُ، وكانتِ النَّفسُ في أثناء هذه المجاهداتِ لاكتسابِ هذه الصفات تطرأُ عليها صفاتٌ أخرى واردةٌ يَتَلَوَّنُ القلبُ بها ليست من كَسْبِ المُريد ولا مِنْ اختيارِهِ، بل هيَ مِن مواهبِ الله كالسرور، والحزن، والطرب، والاهتياج، والشوق، والانزعاج، والرجاء، والخوف، والقبض، والبسط، والهيبة، والأنسِ. فَسَمُّوا ما يكون من الصفات بالكَسبِ والاختيار مَقاماً، مثل التوكل، والصبر، والرضا، وسائرها. وسَمَّوْا ما يكون منها مَواهبَ من الله خارجة عن الكسب حالاً كالسُّرور، والحزن، والرجاء، والخوف، وأمثالها.

ثم إن الصفات المحمودة لما كانت لا تحصل للقلب إلا بعد ذهاب الصفات المَذْمُوَمة سَمَّوْا ذهاب المذمومة بالفناء، والمحو، وحصول المحمودة بالإثبات والبقاء، ثم اعتبروا في القلب ثلاثة اعتبارات، من حيث كونِهِ محلَّ للصِّفات المحمودةِ، ويخُصُّونَه باسْمِ الرُّوحِ ومن حيثُ كونهِ محلاًّ لأنوارِ المشاهدَةِ والمعرفَة، ويَخُصُّونه بالسِّرِّ.

ثم إن القلب قد يَفجؤُه من الغيبِ على سبيل الوَهلةِ إمَّا موجب حُزنٍ أو سُرورٍ، فسَمَّوْهَا بالبوادِهِ والهَواجمِ.

ثم إن الواردَ على الضَّميرِ قد يكونُ بِنَوع خِطابٍ، ويسمونه الخاطر، وهو من المَلَك، ومن الشيطان، ومن النفس، وقد يكونُ لا بِخطابٍ فهو المُختصُّ باسمِ الوارد عندهم.

 ثم عند كمال المجاهدة وقطعِ مقامات السلوكِ يتقدم بين يَدَيْ رفعِ الحجابِ أنوارٌ تومضُ إيماضَ البروقِ ولا تدوم يسمونَه باللوامح، واللوامع، والطوالع، ثم يكون بعدها رفع الحجاب الذي يسمُّونه بالمكاشفة، فإن ارتقى إلى أقصى درجاته واـِّضاحه سمّيت معرفةً ومشاهدةً وتجلِّيًّا.

ثم المريد ما دام مترقِّياًّ في الأحوال يقولون : هو في تلوين. فإذا وصل إلى الغاية واستولى على المطلوب قالوا : هو في تمكين. وكذلك ما دام يرى الأشياء من الله فهو عندهم في مقام فَرْق فهو يَرى الله ويرى الموجوداتِ، وإذا رآها بالله فَهُوَ في مَقامِ جَمْعٍ، ثم إذا لم يرَ إلا الله فهو في مقامِ جَمْعِ الجَمْعِ.

ثم تطرأ على المريدِ بعد تَجَلّيه أحوالٌ يعبرون عنها بالذَّوْقِ، والشُّرْبِ، وهي من نتائجِ التجلِّي. ثم المَشاهدُ قد يغيبُ عن الحِسِّ فيكونُ في غيبةٍ وسكرٍ، فإذا تجلى عنه غِشاء المشاهدةِ وأفاقَ فهو في حُضورٍ وصَحْوٍ.

ثم إن العلمَ عندهم ما دام بُرهانياً فهو علمُ اليقين، فإذا انتقل إلى نعتِ البيان فهو عينُ اليقينِ، فإذا صار إلى نَعْتِ البيان فهو حقُّ اليقين ويَعبِّرونَ عن هذه المراتب أيضاً بالمحاضرة، والمكاشفة، والمشاهدة.

وهذه مراتب السالك باعتبار أحوال العلم المذكورة، والأولى مراتب العلم في نفسه.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق